حين حلّقت بنا الطائرة ذات ليلٍ من إسطنبول إلى القاهرة، كانتِ الأرض تبدو سماءً مقلوبةً فلا شيءَ يبدو من هذا العلوّ الشاهق سوى أضواء مشعّة تلوّح بها المدينةُ للعابرين في طيران الليل، ولربّما تبادلتِ الأرضُ والسماءُ الأدوار لساعاتٍ محدودةٍ، فالتحرّر من الجاذبيةِ يعني أن تحظى بمساحاتٍ شاسعةٍ وتصير السماءُ لك والأرضُ أيضاً، وأنت بينهما مبتعدٌ لتقترب!
> وفيما يبدو أدرك أنطوان دو سانت أكزوبيري هذه المعادلةَ فعشق الطيرانَ الذي منحه الفرصة ليرى الأرض ومن عليها عن بُعدٍ، فكتب «أرض البشر» و»طيران الليل» و»الأمير الصغير»، وبالرغم من الاحتفاء الذي نالته أعماله إلا أن «الأمير الصغير» قد حصلت على النصيب الأعظم من هذا الاهتمام، وتُرجمت إلى مئةٍ وتسعين لغةً كما تمّت ترجمتها إلى اللهجة الدارجة للسكان الأصليين في الأرجنتين وهي لهجةٌ لم يسبق أن ترجم بها إلا الإنجيل، وكذلك أُطلق اسم «الرحّالة الصغير» على قمرٍ تابعٍ لأحد المذنبات عام 2003 تخليداً لأكزوبيري!
> لم يكن عمل الأمير الصغير موجهاً للأطفال فقط، بل كان بالدرجة الأولى مناسباً لعالم الكبار الذي «يبدو عجيباً» كما ردّد البطل الصغير أكثر من مرٍة في رحلته بين الكواكب، ويظهر هذا الأمير فجأةً كما تفعل جنيات الحكايات بينما كان أكزوبيري يحاول إصلاح طائرته التي تعطّلت في صحراء ما، وخلال الأيام الثمانية التي قضياها معاً كان الأمير يطرحُ الأسئلة التي يجلو بها صدأ عالم الكبارِ، أو يسردُ مشاهداتِه في رحلته نحو كوكب الأرض الذي نصحه به عالم الجغرافيا الذي قابله على كوكبٍ ما بعد مروره بالملك ورجل الأعمال ومشعل المصابيح، وهو في سرده هذا يبدو أكثر حكمةً من البومة التي ترى ما لا يراه «النائمون» في أثناء «أرقها الليلي»!
> يركّز الأمير الصغير على معنى أن يبقى المرء طفلاً، في روحه على الأقل، فهذا يعني احتفاظه بنقائه وذكائه وحالما يبدأ بالاهتمام بالمنطق والبراهين والأرقام فإنه يتحول إلى غبي! ولهذا لم يستطع تقبّل المبررات التي أمطره بها رجل الأعمال في امتلاكه للنجوم وانشغاله بالأرقام، وقد كان عدد المرات التي يشهد بها الأمير غروب الشمس من كوكبه هي المرة الوحيدة التي بدت الأرقام لديه على شيءٍ من الأهمية، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأكزوبيري فهو يمتعض من طريقة «الكبار» في التعرف على الأشياء التي تقوم على الأرقام، ولهذا بدأ قصته بأن الأمير الصغير قد جاء من الكوكب رقم «ب 612»، لأن هذا هو السبيل الوحيد بإقناعهم بما تقول فلا يزعجونه بأسئلتهم!
> تمكّن الكاتب من هزيمة العزلة التي كان يشعر بها في الصحراء الشاسعة حين آنس بالأمير الصغير الذي قرّر أن يبذل حياته بلسعة حية كي يستطيع العودة من حيث أتى لئلا يترك وردته وحيدةً لليباس، وهزم عزلته مرةً ثانية حين حمل معه ذكرى الرجل الصغير بعد عودته إلى العالم «المزدحم» الذي جاء منه، فهو لم يعد وحيداً فقد صار له صديقٌ بين النجوم!
> يقول الثعلب في حديثه للبطل الصغير:» لا يرى المرء رؤيةً صحيحةً إلا بقلبه، فإن العيون لا تدرك جوهر الأشياء»، وهذه هي الفكرة الأساسية التي تظهر في مشاهدَ مختلفةٍ من العمل، ففي البدء يسترجع الكاتب ذكرى من طفولته البعيدة، حين حاول رسمَ الفيل في بطن أفعى البوا بعد أن قرأ أنها تبتلع فريستها دون مضغٍ فتظل دونَ حركةٍ مدة ستة أشهر حتى تنتهي من مضغها، وحين عرض رسمه على الكبار لم يروا فيها أكثر من قبعةٍ، لكن بطله الصغير الأشقر الشعر عرفها فوراً، لأنه كان يرى بقلبه، إذ «لا شأنَ لما يُرى، فكل الشأن لما لا يُرى»!.
> تتشابه نهاية الأمير الصغير - الذي اختارها أن تكون بلسعةَ حيةٍ صادفها في الصحراء_ مع نهاية أكزوبيري، فقد اختفى في إحدى رحلاته، وعثر بعد سنواتٍ طويلةٍ على حطام طائرته وعلى السلسلة الفضية التي نُقش عليها اسمه عام 1998، ويبدو أنه عشق الطيران حياً وميتاً، وزالت عزلته كليّاً بعد أن صار له أصدقاء بين النجوم «على الأرض»!
> « كم هو قليلٌ الضجيج الذي تصنعه المعجزات الحقيقية، وكم هي بسيطةٌ الأحداث الجوهرية»!
القاهرة