تطوّرت صناعة الصّورة في العقدين الأخيرين تطوّراً مذهلاً، وذلك بفضل إنتاج أجيال جديدة من الكاميرات التي تتمتّع بتقنيات عالية. ليس هذا فحسب، بل إنّ انتقال الصّورة من مكان إلى مكان على سطح الكوكب أصبح أمراً متحقّقاً، ويتمّ إنجازه بوقت قصير جدّاً، ممّا سمح بتداول الصّورة على نطاق واسع للغاية.
بفضل هذه الطّفرة النّوعيّة التي حقّقتها الصّورة، أصبح لدينا في الأرض ما يشبه العري الكوني، فقد أصبح كلّ ما على الأرض معرّضاً لتلك العيون الزّجاجية الغريبة، التي تلتقطه بسرعة البرق، وتبعث به إلى أيّ مكانٍ تريد.
هذه الفضائحية الكاملة في رؤيّة كلّ شيء، وفي الكشف عن الأسرار، أصبحت تشكّل تحدّياً عظيماً لأنساق الفنون المختلفة، وتحديداً لفنّ الشّعر باعتباره فنّاً قائماً على التّخيّل بالصّورة. هنا بإمكاننا أن نضرب مثلاً على التّحدّي السّابق، فنأخذ المشهد القاسي المدمّر الذي نقلته الكاميرات التلفزيونية قبل سنوات لاستشهاد الطّفل (محمد الدّرّة)، وبالمقابل نأخذ عدداً كبيراً من القصائد التي كتبها الشّعراء العرب عن الواقعة، فما الذي سيحدث؟ هنا سوف نجد أنّ المشهد الذي نقلته الكاميرات كان أكثر تأثيراً: سوف نرى الأب في لحظة قنوط مطلق، وهو يصيح مصعّداً نداءه إلى ما لا يعرف: (قتلوا الولد)، ثمّ نرى الولد مذعوراً، وهو يحاول الاختباء في الحضن الذي يعتقد أنّه يحميه، ثمّ فجأة الولد بلا حراك.
حين نقرأ القصائد التي كُتِبَت عن استشهاد الفتى محمد الدّرّة، سوف نتأثّر بها بدرجات متفاوتة، وذلك تبعاً لمستويات القصائد، غير أنّنا لن نصل بواسطة تلك القصائد إلى تلك الذّروة من المشاعر التي وصلنا إليها من خلال مشهد الاستشهاد الذي بثّته الفضائيّات. الأمر الآخر الذي يحدث هو أنّنا أثناء قراءة القصائد سوف نفاجأ بصور مشهد الاستشهاد وقد اقتحمت علينا الأبواب!
لن نقول إنّ المشهد البصري الذي تقدّمه الكاميرا قد ألغى المشهد البصري الذي يقدّمه الشّاعر، ولكنّنا نقول إنّ عمل الكاميرا بشكل عام قد صعّب عمل الشاعر، فأصبح ما هو مطلوب منه أضعاف ما كان يطلَب منه في الماضي. هنا لا بدّ من التأكيد على نقطتين بالغتي الأهميّة:
النقطة الأولى وتتعلّق بالمشهدية المنسوجة بواسطة اللغة، حيث نعتقد أنّها مشهدية معقّدة وواسعة ومتعدّدة، ولا يمكن لها أن تنفد، أو تتعطّل، بسبب صناعة الصّورة التي تبثّها الكاميرا.
النقطة الثانية وتتّصل بطبيعة كلّ من الصّورة المتخيّلة التي يبتكرها الشاعر، والصورة التي تلتقطها الكاميرا، فهما في النهاية شيء واحد. في الحالتين ثمّة إبداع إنساني، ولنكن أكثر جرأة ونقول إنّ الصّورة الطازجة الجميلة المثيرة التي تلتقطها الكاميرا هي جزء من إبداع شعري جديد، يقدّمه الإنسان الفنّان الذي يدير الكاميرا ويوجّهها. عند هذه النتيجة الحاسمة التي وصلنا إليها في الحديث عن جماليات الصّورة المتحقّقة بواسطة الكاميرا، نكون قد لامسنا قضيّة في غاية الأهميّة، وهذه القضيّة تتعلّق بشعريّة السينما.
جاء اختراع السينما في العصر الحديث ليحقّق قفزة نوعيّة على صعيد الأجناس الأدبية والفنيّة المعروفة، فهذا الشّكل الخطير من الفنّ يجمع في تفاصيله عدداً كبيراً من الفنون: التّمثيل والمسرح، السّرد القصصي والروائي، التّصوير والإضاءة والتشكيل والموسيقى، ...إلخ. كلّ ذلك يتحرّك في مسار شعري، من خلال الرّؤيا التي يقدّمها الفيلم. السينما بهذه المواصفات يمكن اعتبارها فنّاً شعريّاً جديداً، أو لنقل إنّ الفيلم هو النّصّ الشّعري الجديد، الذي ينبغي على الشعراء التّوجّه إليه. لدينا هنا مثال ساطع على هذا التّوجّه، وهو الشاعر الفرنسي الكبير جاك بريفير الذي دخل حلبة السينما، وكتب السّيناريو لتسعة عشر فيلماً سينمائيّاً حتى عُدّ أهم كاتب سيناريو في تاريخ السينما الفرنسية.
Yousef_7aifa@yahoo.com - فلسطين