تحدثت في مقالتي السابقة عن حضور فكرة التشكيك في ظواهر الأشياء عند دلال جازي في ديوانها تشريح الأرنب الأبيض ومحاولتها الغوص إلى ما تحت الظواهر، وأشرت إلى تكرر فكرة المكيدة والخديعة في الأشياء والأفكار التي تبدو بوصفها مسلمات، تقول في قصيدة بعنوان (كافكا يكتب على الجدران) مدمجة العنوان ليصبح جزءًا افتتاحيًا من القصيدة:
«بالقدر الذي يقتضيه الأمر - صدقنا - لكن العشب نحاس - والغد مكيدة!».
وتقف دلال أمام ما كتب كافكا على جدران إبداعه من رعب التحول والانسلاخ، ويفضي بها تأمل جدرانه إلى تشريح التجربة والمكان والزمان بالمخيلة لينكشف المكان عن عشب ليس سوى نحاس، وينكشف الزمان عن غد ليس سوى مكيدة. ها هو العشب (رمز المكان) ينزاح عن وظيفته الحية، ويتقهقر الغد عن فسحة الأمل المخبوء فيه والحلم بالفرح في المستقبل، ويتحول إلى ضيق المكيدة والدسيسة والغدر. يمضي كلٌ من العشب (رمز الخصب والنماء) والغد (رمز المضي قدمًا والأمل) إلى صيرورة فادحة؛ ذلك ما يكشفه مبضع مخيلة دلال الشعرية.
ذلك التحول هو صنو الشك والتكذيب، ألم تقل في بداية النص (بالقدر الذي يقتضية الأمر صدقنا) لتبقي القارئ معلقًا في فراغ التصديق ومربوطًا إلى فداحة الجملة التالية (العشب نحاس والغد مكيدة)؛ الجملة الأولى تحيل إلى فراغ متعمد، فما هو الذي صدقناه بالقدر الذي يقتضيه الأمر ؟ دلال تعرف وتكشف وتشّرح التحول والانسلاخ، وتبقي الذي صدقناه بالقدر الذي يقتضيه الأمر مفتوحًا على التكهن والاحتمالات. وهذا التكهن يمكن أن يملأه القارئ بما يريد، وهنا تزرع فيه سلفًا بذرة تشككك أو على الأقل تشجعه عليه.
كذلك تفعل في قصيدة (نزهة قصيرة مع ت. س إليوت) التي تختمها بما يؤكد فكرة التشكك والوقوع في المكيدة أو الخديعة، تقول:
«لا أحد يمكنه التحديق - لأكثر من ثلاث دقائق - في كوب ماء - دون أن يكتشف أن ثمة خديعة.»
وتقول في قصيدة (ثم إننا انتبهنا) وهو عنوان ذو دلالة واضحة في هذا السياق الشكوكي:
«البدايات كلها، بدايات كل شيء - كانت في فم الضفادع - وهذا النقيق الذي تصدره - هو سوء هضم وسوء تفسير لفكرة مغلوطة - عن العالم سقطت في البركة».
وتقول في نص آخر:
«كيف لم ننتبه إلى التاريخ - الذي علقوه على بوابة المدرسة في هيئة جلود مدبوغة - يحوم حولها الذباب - كيف لم ننتبه للأمهات وهن يحكمن قبضاتهن حول - أعناقنا بعقود طويلة من اللؤلؤ....
يا فجر الفولاذ ها نحن نسير - كل المسافة التي بين صورة الشيء ومادته - ولا نصل..»
إن إلحاح عند دلال على هذه الفكرة يدعو إلى التساؤل عن وظيفة هذا الكشف والتشريح رؤيويًا وشعريًا، فإلام يحيل؟
الرياض - Rafeef2010@gmail.com