عرف منذ الأزل أن هذه اللغة العظيمة كانت مثار اهتمام العرب والعجم على حد سواء لأنها كانت معجزة الدين الأخير بهرت عقول أهلها الذين توقفوا حائرين تعتريهم الدهشة من بيان الله العظيم وأبت أفهامهم أن تدرك جميع ما جاء فيها من معان وألفاظ وجرس موسيقي لا ينتمي للشعر أو النثر لا يتكئ على قافية ولا يسنده وزن ومع ذلك هو يسير في هذا الجرس الذي يأخذ بالألباب لذلك كانت قدراتهم أعجز من أن تحيط بسورة من مثله وظلت العربية لها قيمتها العظيمة تزدهي بهذا القرآن الذي جاء مشرفاً لها بين جميع اللغات فهي اللغة الوحيدة التي قاومت كل عوامل الفناء وهي اللغة الوحيدة التي ما زالت تتنفس بالقرآن الكتاب الفاصل بين جميع الكتب السماوية. وظل العرب في كل العصور التي ترامت بين أطرافها العربية يحفظونها ويحمونها من المغرضين وأعداء الدين وأعداء القرآن الذين كانوا يحاولون إيجاد مداخل وعثرات على ألفاظ القرآن كي يضعفوا هذه الأمة تارة بإثارة الشكوك حولها وتارة بالممارسات التي يحاولون دسها بين أبناء العربية فيحاولون صرفهم عنها بمزجها باللهجة المحلية أو محاولة كتابتها بحروف ناطقة ليكبّدونها الخسائر ولعلنا إن أملينا النظر إلى القرن الرابع الهجري وجدنا فيه حروباً خفية قامت ضد العربية أغلبها من المستشرقين الذين كانوا يحاولون العبث بمحتوياتها والعيب فيها بيد أن علماء اللغة والجهابذة أمثال الجرجاني والخطابي والباقلاني والجاحظ وغيرهم قد وقفوا بالمرصاد لكل من أراد أن يأتيها من حيث ظن أنها تؤتى.
كل هذا كنا نباركه ونفرح به نحن أهلها وأربابها ولكن في زمن الرقميات والفضاء والعولمة لا أعرف ما الذي ستصل له هذه اللغة بعد أن خذلها أبناؤها الجهابذة الذين تقع على عواتقهم مهمة الذود عنها كما فعل أولئك الكبار في القرن الرابع الهجري جميعنا يقرأ في كل أطراف الشبكة العنكبوتية عبر الصحف والمجلات والمنتديات وعبر قنوات التواصل الاجتماعي ويقف على مدى الكتابة العربية التي اضمحلّت وأصبحت تقع في نطاق اللغة المولدة التي لا تعرف النحو ولا البلاغة ولا معنى البيان.
وكأني أرى صناعة الكتابة الأدبية قد تحولت لسوق شعبي يلقي به كل من يلقي بضاعته ويأتي الآخر يسبقه مكاؤه وتصديته لقوام لغوي وأدبي مهترئ من خلال هذه المشاركة اتهم أصحاب العلم من أساتذة الجامعة والأكاديمين بخطر ما يفعلونه عندما يشيدون ببعض الحروف العربية التي لا ترقى لذائقة ولا ترسو على ميناء بلاغة ولا تحفل ببيان وكأنهم قد نسوا قول الشاعر:
لك في المحافل منطق يشفي الجوى
ويسوغ في أذن الأديب سلافة
فكأن لفظك لؤلؤ متنخل
وكأنما آذاننا أصدافه
الآن أصبحنا نقرأ كلاماً يتناقض مع نفسه في مادته وصورته ومكوناته أوشك أن ينتهي معه ما يسمى مطابقة الكلام لمقتضى الحال -النظم- وكأن جزءاً من بلاغتنا العربية بدأ يتكسّف ويسقط أمام المجاملات الرخيصة التي يرمي بها أولئك المسؤولون في طريق البسطاء من عامة الناس ولا يقومون بدورهم تجاه هذه اللغة لقد أصبحت جميع وسائل الإعلام وعلى رأسها الشبكة الإلكترونية خطراً عظيماً على اللغة العربية بل أصبحت أداة طيّعة في أيدي المغرضين لهدم هذه اللغة بشكل غير مباشر وهذه الأخيرة وأعني بها الشبكة خطرها أفدح وأعمق خصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك وتويتر ولنكدن وغيرها من المواقع) حيث تقوم المجاملات على حساب اللغة كم قرأت نصوصاً ممجوجة عرجاء شوهاء ورهاء ومع ذلك وجدت من يصفق لها المشكلة حقاً ليست فيمن صفق لكن المشكلة الحقيقية عندما يكون جهبذ من جهابذة العربية هو من يصفق وهو يدرك تماماً أن ما يفعله ليس من باب الاقتناع والتسليم بجمال الحرف ولكن لأجل الإنسانية وهذا خطأ فادح سيردينا إلى أسفل سافلين.
ثم سلام على لغتي سلام على الضاد منذ أن بعثت إلى أن تؤوب إلى الله.