(أ)
إنّ اختلاف موازين القوى الداخليّة المؤثّرة في أيّ ثقافة يضغط باتّجاه إعادة إنتاجها إذا ما واجهت عجزاً ثقافيّاً يتمثّل في جاهليّة معرفيّة عاجزة عن مواجهة ثقافة عالميّة طاغية وضرورية، إذّاك يظنّ المسؤولون أو المتضرّرون: أنّ الإصلاحَ كامنٌ بإعادة تدوير الثقافة بشكل مغاير عمّا هو قائم، وهو ما يتّفق عليه الأفرقاء، بينما يكون افتراقهم -حيث لا يمكن التلاقي- فإمّا ردّة/عودة يطرحها الأصوليّون أو تطوّراً/تقدّماً يطرحه التنويريّون.
والتدوير الثقافي متعدّد بين العائلة والمدرسة والإعلام والتشريع والعلاقات الخارجيّة والعالم الرقمي، ونقتصر مناقشتنا هنا على التدوير بين مقرّ الثقافة وبين العالم الرقمي، بحيث يمثّل التدوير الفكري والسلوكي تأثيراً على الإنسان والثقافة معاً عبر دوران الثقافة بين واقعها والعالم الرقمي ثم إعادتها بعد رقمنتها بما يخدم الواقع تطويراً؛ فالتدوير الثقافي-الرقمي يكون بتصدير ثقافة المقرّ وإعادة تدويرها رقميّاً، لكنّنا لا نتوقع منها أن تأتي بجديد لدينا، لطالما نحن نتعامل معها على أنّها وسيلة لتخزين أو نقل ثقافتنا القائمة فيما بيننا، والتغاضي عن قدرة العالم الرقمي في إنتاج معرفة تخدم الإنسان والواقع، فكلّ ما في الأمر هو انتقال هذه الثقافة الجامدة من مكان إلى آخر أكثر شيوعاً وتأثيراً، فيتراوح التأثير بين (التطرّف، الخروج من الثقافة، محاولة تجديدها، الاعتزال)، وهي مسائل نخبويّة طرحت إلى جانب مسائل أخرى سياسية واجتماعيّة جعلتها الذكائيّة الرقمية شائعة لدى نسب مرتفعة من الأفراد، لكنّها إن كانت على الصعيد السياسي والهدمي قد حصدت أنظمة استبداديّة متهالكة، إلاّ أنّها على الصعيد الثقافي والبنائي مازالت عاجزة عن التمدّن والمعرفة والرقميّة العالميّة التي تخدم الإنسان، ذلك أنّ شعوب الدول العربيّة غير مؤهّلة تعليمياً على الذكائيّة الرقميّة، وهي الناجمة عن تطوّر غربيّ طبيعي وليست طفرة، بحيث إنّ التدوير الثقافي-الرقمي يتم تلقائيّاً ودون تعثّر لدى الدول المعرفيّة فتكون الذكائيّة الرقميّة ذات منفعة للفردية الصانعة لها، بينما حالها في الدول غير المعرفيّة أنّها مبتورة عن الواقع، وهو ما يجعلنا اعتبار الذكائيّات الرقميّة (عالماً افتراضيّا) وغريباً عن واقعنا، ويصعب فيه تدوير قيم تجديديّة لمصلحة الفرد في الواقع.
(ب)
لم يعد العالم وأسراره ملكاً للدول وطائفة من أصحاب النفوذ، فلعلّ القيمة العظمى من الذكائيّات الرقميّة/الثورة التكنولوجيّا في علوم الاتصال والمعرفة أنّها حقّقت ما عجزت عنه القوّى العسكريّة والعولمة الاقتصاديّة، وذلك بإنتاجها (وحدة إنسانيّة) تعمل لخدمة الإنسان بوصفه فرداً، بحيث إباحية تواصل الفرد مع العالم وشيوعية المعرفة بين يديه، إذاك فإنّ الفرديّة نفسها أصبحت تشارك في ملكية هذا العالم. ولئن عدنا إلى تفكيك الثقافة فإنّ خاصيّتي (التأثير والخصوصيّة) -وهما اشتراط لا تقوم الثقافة بدونهما- يتراجعان أمام ازدياد قوة الذكائيّات الرقميّة: (الشرائح الذكيّة، شبكات خدمة النت، بلاك بيري، الأيفون، الإيباد، النوت، تويتر، فيس بوك، وغيرها) على مستوى التأثير الرقمي وتجاوز الخصوصيّات؛ لأنّ قوّة التأثير والتأثّر الرقمي تطغى على قوّة التأثير في الثقافات المحليّة وتتجاوز الخصوصيّات الثقافيّة، وهو ما يدفع بموت الثقافة كمؤثر وانحصارها في علم الاجتماع والانسان كردة فعل وليس كفعل.
ولربّما نواجه انتقاداً هاهنا، إذ كيف تتخطّى الذكائيّة الرقميّة -على مستوى الفرد- الثقافةَ التي شكلته وأثّرت فيه؟ وتُبنى معالجة هذا الانتقاد من منطلقين: (الصانع المورد، والمستهلك المستورد)؛ فثقافة الصانع طوّرت نفسها إلى ثقافة رقميّة كجزء من الذكائيّة الرقميّة، بحيث لا يوجد في واقع الصانع أيّ بتر معرفي مؤثر بين المقرّ والرقم، لذلك لا نعدّه تخطّياً بل تطوّراً، بينما لم يأتِ استهلاكنا للذكائيّة والتعامل معها عبر تطور ثقافتنا وصولاً إلى مفهوم الفرديّة وقيمة حقوق الإنسان بوصفه فرداً، إنّما عبر استيرادٍ قابلهُ عجزٌ في انتاجنا الثقافي الحي، وهذا ما أسمّيه عجز الميزان الثقافي حيث استيراد (المنفعة) الصناعات وما يتبعها من ثقافات، وتصدير (المضرّة) الكراهية والعنف والتشفّي والتخريب والإقصاء؛
ويمكن هنا أنّ نعرّف الميزان الثقافي: أنّه العلاقة الجدليّة بين مؤثّرات وتأثيرات استيراد الثقافات الخارجيّة وبين تصدير الثقافة المحليّة، وأيّ عجزٍ وقصور في خانة الثقافة المحليّة لا يتقلّص في ظلّ وجود تدوير ثقافي ميّت وضلّيل؛ إذ أنّك لا يمكنك التغافل عن كون استيراد الصناعات يستتبعه استيراد ثقافاتها أيضاً، وهو التعامي الذي يصرّ عليه حرّاس الثقافة المحليّة، على الرغم من وقوعهم تحت تأثيرات كلّ ثقافات الصانع؛ والظنّ بأنّك قد تفلت من الصانع عبر استيرا د مصنوعاته دون أن يقع عليك تأثير كبير من ثقافته هو ظنّ لا نتبنّاه، لطالما ثقافة الصانع حالّة بطريقة أو بأخرى في صناعته.
وأمام هذا العجز تتورّط الفرديّة السعوديّة بنقل الثقافة المتهالكة الى عالم الرقم ظنّاً أنّها تجدّدها، حينما يتحوّل المنقول من أوراق صفراء إلى شاشات رقمية، وحينما يختزل عالم الرقم إلى مجرّد وسائل نقل لخدمات صراعات في الواقع، دون الوقوف طويلاً عند المنافع القصوى الممكنة من وراء ذاك العالم الرقمي، الذي يحكم اليوم العالم عبر أفراد يؤثّرون عليه إيجابيّاً، على عكس الكيانات الدوليّة التي تؤثّر على العالم سلبيّاً، وهو ما يُعدّ أهم انتصارات الذكائيّة الرقميّة، حينما تسعى إلى تحرير الفرديّة العالمية دون اشتراطات الخصوصيّة والأجندات الكيانيّة، وحينما يحقّق الراحل ستيف جوبز وبيل جيتس وغيرهما ما عجزت عن تحقيقه حكومات الدول الغربيّة كمنفعة للإنسان الفرد.
أمّا هنا، فأيّ اختلاف طرأ على الفرديّة السعوديّة بين حرب (الكاسيت) الثقافيّة بين الصحويين والحداثيين في الثمانينيّات، وبين حروب مواقع التواصل الاجتماعي اليوم، وكلا الجيلين يستخدمان التقنيات والتكنولوجيا الغربيّة لغايات تتعلّق بالثقافة الميّتة والتيه المعرفي.
(ج)
من هنا، فإن انطفاءات الثقافة على مستوى مقرّها في الواقع عاجزةٌ عن الإضاءات في الواقع الرقميّ لطالما يتمّ تدويرها لغايات لا تخصّ المعرفة بقدر ما تخصّ مستهلكي الذكائية الرقميّة في عبثهم وترفيهاتهم، ذلك أنّ غياب وظيفة الثقافة في المقرّ المصدّر ينعكس في الرقم المستورد، ولعلّ في هذا الغياب ما يفسّر عدول نخبة من شباب النت عن الثقافة، لكنّ هذا العدول ليس كافياً لإنتاج بديل، لأنّ الموات الثقافي في المقر، يقابله تيه ثقافي في الواقع الرقمي، وهو ما يرجّح استمراره لعقد آخر في ظلّ استبداد أصوليّات الإسلام السياسي وتخبّط التيّارات المدنيّة الأخرى.
إنّ عملية تدوير الثقافة بين المقر والرقم تتطلّب تأهيل أطراف العملية الدائريّة مدعومة بمنظومة معرفية بحيث تُحقّق الدورة غاياتها في التأثير والتطوير والانتشار، ممّا ينقل الثقافة الواقع إلى الرقم ثمّ إعادتها بإنتاج إضافي يخدم الفرد في المقر، وهو ما يتعذّر وجوده لدينا إذ تتراكم نتائج ارتداديّة يوميّاً، بحيث إنّ الثقافة المعاد إنتاجها في الواقع الرقمي تتضخّم في جمع سلبيّات الثقافة وتزيد من صعوبة حلّها، حينما تستغلّ الواقع الرقمي لخدمة ثقافة تعمل ضدّ الأفراد وسعادتهم، إذّاك فإنّ العالم الرقمي المختزل لدينا والمصغّر حتّى حدود الوسيلة فقط لا يمكنه أن يتطوّر ليكوّن ثقافة رقميّة. وتبقى تلك الاجتهادات والصراعات على مواقع التواصل الاجتماعي خبط عشواء بين ثقافة متهالكة في الواقع، وأخرى ضلّيلة في الواقع الرقمي.
Yaser.hejazi@gmail.com