يحكي لنا الواقع ظهور جيل لا يرى باللغة العربية سوى بضعة أحرف يتخذها وسيلة للحوار مع غيره، ولا بأس من إدخال حروف جديدة أو كلمات أعجمية أو يستوحي لغة من بنات أفكاره طبعاً، مع تشويه تلك اللغة التي تنزل بها القرآن بحذف الهمزات وبعض النقط والأخطاء الإملائية التي لا تصدر عن أطفال أو مراهقين بل من حملة الشهادات والدراسات العليا كالبكالوريوس والماجستير.
الانفتاح والتطور المهول بهذا العصر الرقمي، والتواصل اللا محدود الذي جعل العالم قرية صغيرة، يتواصل سكانها بأريحية وهم بغرفهم بل على أسرتهم، ومن تحت اللحاف، لا يتكبدون مشقة عناء أو سفر؛ فبحركة بسيطة ينجزون مهامهم ويحجزون مقاعدهم وأماكن إقاماتهم بأي مكان على سطح الكرة الأرضية، كل هذا في صالح الإنسان ومن أسباب الرفاهية بحمد الله، ولكن كان له أثره السيئ على جمال وبلاغة اللغة العربية التي مجدها الأجداد وفرط بها الأحفاد بل جهلوا بها.
الكثير بلا غرابة أو مبالغة بات يفخر بالتعامل بلغة غير لغته، ويبذل في سبيل ذلك الغالي والرخيص، بل أصبحت اللغة العربية بالنسبة له لغة ثانية. جمال اللغة العربية تلاشى عندما هجر أبناؤها قراءة أمهات الكتب، ودرر الشعر، ودواوين العرب، والتمعن في آيات الله المعجزات في كتابه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. كان عرب البادية رغم جهلهم يبدعون بالغوص في اللغة العربية، وينهلون من معينها العذب لفظاً ومعنى، ويعتبرون من يلحن ليس من العرب، ويعيرونه بما أحدثه في العربية من خلل وضرر. كان العرب يحفظون الشعر ويستشهدون به، ويعرفون القصيدة ومناسبتها من مطلع البيت، بينما الآن تحول الشعر عبر شبكات التواصل لكلام سطحي ولغة تافهة بل حوارات تثير الضحك، وربما الاستياء، مع عدم إنكار جهد كثيرين ينشرون قصصاً هادفة وأبياتاً رائعة، تم نقلها من مصادر موثوقة أدبية أو دعوية.
ولكن شبكات التواصل بهجومها المحموم وكثافة برامجها شغلت السواد الأعظم فأصبحت اللغة الحالية هي لغة الشات والتواصل الكتابي ونشر الشائعات والأخبار بكلمات متواضعة ورموز مبتكرة، يبحث معها الشخص عن الاختصار السريع والوصول دون تكلف. لم يعد هناك كتاب تتم قراءته بين حين وحين ومكتبات تعج بالقراء. صار بكل يد جهاز يتصفح به الصور والمقاطع ويدردش بكلمات مكسرة ومبعثرة؛ كي يتواصل مع الجميع ويستأنس بهم، وربما نسي مشاغله ومسؤولياته تحت سيطرة تلك التقنية الساحرة التي لم تفرق بين الشيب والشباب، وكثيراً ما فضحت مستوى ثقافة أو تعليم البعض عندما لا يجيد التعبير أو الإملاء وهو يتقلد منصباً كبيراً.
ورغم أهمية تلك اللغة الرقمية ووسائل التواصل وشبكات النت فقد أعطيناها أكبر من حجمها، وارتكبنا بسببها أكبر جريمة بحق اللغة العربية بحال استخدامنا السيئ لها دون مراعاة لنقل أجمل ما حوته لغتنا الرائعة بلا تشويه أو تحريف أو تدنيس.
وفي النهاية لا أنكر الفائدة العظيمة التي تحويها بعض الرسائل أو الروابط عبر (الواتساب أو الفيس أو التويتر) والمواقع الثقافية وما تمدنا به من معلومات وروائع مأخوذة من أروع الكتب والتفاسير والتلاوات المنوعة لقراء عدة، وتصلنا بشخصيات نقرأ لهم ونستفيد من علمهم دون عناء، لكن بعضها كالسيل المنحدر الذي يغرقك ولا يرويك بل يشتت أفكارك، فمن خلال قراءة متمعنة قد يرد إليك اتصال أول نداء من صديق ينسيك ما بدأت به فتعود الكرة، وتكون في حلقة مغلقة، وقد وعدت نفسك بقراءة كل شيء عندما تتفرغ لذلك، ولن تتفرغ أبداً لأن عجلة الحياة سريعة والأحرف تجري والعالم حولك يجري؛ فلا تشعر إلا بموعد معرض الكتاب قد حل والناس تتهافت على شراء الكتب وأنت لم تمسح الغبار عن الكتب التي اشتريتها العام الماضي.
وعندما نجلس في نهاية الأمر مع أنفسنا بعد هذا الصراع المحموم تصيبنا الدهشة لضحالة ثقافتنا وعدم معرفتنا لمعنى كلمة أو شرح بيت شعر أو إكمال بيت أو تذوق إبداع أدبي، ونعد أنفسنا بفتح صفحة جديدة، ولكن هيهات، فلو هربت من الموج لوصل إليك عبر نغمات الأجهزة ومغريات العصر.
ومن فقد الناس بلا شك سيجدهم مجتمعين بقروبات أو مجموعات الدردشة عبر شاشة هاتفه، الكل يتحدث بشكل سريع، أجسادهم مع أهاليهم وعقولهم تحلق بين الأصدقاء والمجموعات التي لا حصر لها، فأين اللغة الصافية أو النخبوية التي تمتع وترتقي بالذائقة معاً وسط هذا العالم الجديد الذي يبحث عن أقصر الطرق للتواصل عبر اللغة البسيطة الغربية أو الوسيلة وليست الإبداعية السامية؟ والدليل على ذلك إجابات الطلبة المفزعة أثناء الاختبارات؛ ما يدل على تدني مستوى التعليم وسط هيمنة الأجهزة، وانتشار الألعاب الإلكترونية دون رقابة، فباتوا غرباء، لا يعون ما تحدثهم به الكتب العلمية والأدبية والدينية. ومما زاد الطين بلة تخبط التعليم بقراراته غير المدروسة، وعدم قدرته على التوفيق بين تحولات العصر وخطط التعليم والتركيز على غرس هيبة المعلم وتزويده بالعدة اللازمة لمواجهة طوفان ثورة المتعلم واستهتاره بالمعلم وبقدراته، وبما حوته الكتب وسط بيئة طاردة لا ترغبه بقدر ما تشده إليها تلك اللغة الرقمية والبرامج الملونة دون رقابة وتشديد، وهي في الحقيقة تسقيه السم بخفاء!