تناقلت الصحف المحلية مؤخراً خبر انتخاب الصديق العزيز الدكتور عبدالله الحيدري رئيساً لمجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض خلفاً للأخ الدكتور عبدالله الوشمي الذي قدّم استقالته في شهر صفر الماضي.
وقد استبشرت خيراً بهذا الخبر المبهج متطلعاً إلى أن يزدهر النادي في عهد رئيسه الجديد، وأن يبادر من الآن في رسم خططه المستقبلية، وأن يمد جسور التعاون مع المثقفين ورجالات الفكر والأدب، مع الأخذ بيد شداة الأدب، والتركيز على الأدب السعودي وإعادة طباعة بعض كتب الرواد النافدة منذ أمد طويل، وإقامة الندوات لتكريمهم والتعريف بآثارهم، والاستمرار في عقد ملتقى النقد الأدبي في موعده المعتاد كل سنتين.
وسأقصر مقالي هذا للحديث عن صلتي بصديقي الحيدري بهذه المناسبة الجميلة، وهي صلة قديمة نشأت منذ أكثر من عشرين عاماً، وأشهد أنني طوال علاقتي به خلال هذه السنوات لم أرَ منه إلا حسن الخلق، وعفة اللسان، وحفظ غيبة الصديق، ولا أقول هذا الكلام مجاملة له فقد صادقته وعاشرته 22 عاماً، ولم تعصف ـ ولله الحمد ـ رياح الخلافات بهذه الصداقة كما يحدث عادة بين الأصدقاء، فأنا من أعرف الناس بخلقه وفضله وعلمه، ولست أرى بأساً أن يكتب الصديق عن صديقه.
عرفت صديقي عبدالله الحيدري في عام 1412هـ، وكان لقاؤنا الأول في مبنى مؤسسة الجزيرة الصحفية في مقرها القديم آنذاك في الناصرية، وحينها كان يعمل مذيعاً بإذاعة الرياض، ويشرف على ملحق «إبداع» بصحيفة المسائية ويرأس القسم الثقافي فيها، و»إبداع» ملحق أسبوعي يصدر كل ثلاثاء في ثلاث صفحات.
وقد حلّق عبدالله الحيدري بهذا الملحق المتميز، وسجّل حضوراً جيداً له، وأصبح ملتقى للعديد من الأقلام السعودية وغيرها التي وجدت الاهتمام والتشجيع من المشرف الذي استطاع بخلقه وثقافته وبما يملكه من علاقات واسعة مع الأدباء والمثقفين أن يوظّف تلك العلاقات في جذب المزيد من الكتاب والشعراء لملحقه.
لم أعرف الصديق الحيدري شخصياً قبل هذا اللقاء، ولكني عرفته (سماعاً) من خلال ما يعده ويقدمه من برامج ثقافية عبر أمواج الأثير، أذكر منها: شاعر من أرض الجزيرة، وكتاب وقارئ، وعقود الجمان، ونسيم الصباح، ورمضان في الشعر، ورمضان في الأدب، وغيرها.
بعد ذلك تابعت طرفاً من نشاطه في الكتابة من خلال زاويته الأسبوعية في جريدة اليوم التي جمعها بعد ذلك في كتيب لطيف عنوانه « أطياف شعبية».
وفي ذلك العام الذي تعرفت فيه عليه، توفي الأديب محمد حسين زيدان رحمه الله، فكتبت مقالاً إثر رحيله بعنوان «ورحل صاحب الكلمات المجنّحة»، وذهبت لصحيفة المسائية لنشره عبر ملحقها الأدبي «إبداع»، وهناك قابلت الصديق الحيدري على غير موعد مضروب. استقبلني استقبالاً لطيفاً، وكان يحمل في يده ملفاً استخرجه من دولاب في أحد زوايا المكتب يحتوي على بعض مواد الملحق، وعلى مقربة منه جلس الأستاذ سعيد الصويّغ المشرف على الصحيفة يتصفح العدد الجديد.
تعارفنا سريعاً وجرى بيني وبينه حديث قصير، ثم ألقى نظرة سريعة على المقال وقال: ستجد مقالك منشوراً في الأسبوع القادم بإذن الله، وما هي إلا أيام قلائل حتى وجدت مقالي منشوراً وبجانبه رسمي (صورتي)، وكنت قد نشرت قبل هذا المقال العديد من المقالات في صحفنا المحلية، ولكن بدون صورة!
كنت سعيداً للغاية وأنا أشاهد لأول مرة في حياتي جريدة تُخرج أمامي، المقالات تأتي من قسم التصحيح بعد صفها ومراجعتها، ثم تبدأ عملية القص واللصق وإخراج الصفحات الداخلية ووصولاً إلى أخبار الصفحة ألأولى وما تتطلبه من مهارة فائقة في اختيار العناوين المثيرة والإخراج الجيّد، وما يصاحب ذلك من أخطاء طباعية أو أخطاء في الصور يمكن تدارك بعضها في الطبعة الثانية التي توزّع في مدينة الرياض.
وما زلت أذكر بهذه المناسبة خطأ تم تداركه قبل وقوعه وكنت موجوداً أثناء الإخراج، فلقد كتب الأستاذ محمود ردّاوي دراسة مطوّلة عن شاعر الملاحم العربية الأستاذ عبدالله بلخير رحمه الله، وبدلاً من وضع صورة الشاعر الكبير أحضر موظف الأرشيف صورة المطرب الإماراتي عبدالله بلخير!
بعد ذلك توالت مقالاتي المتواضعة في ملحق إبداع، وكانت تنشر دون تأخير، وازددت قرباً مع مرور الأيام بصديقي الحيدري. وهنا لا بد من الإشارة إلى دور صحيفة المسائية الرائد في تشجيع المواهب واحتضان كتابات جيلنا، فقد تخرج في هذه المدرسة الصحفية الكثير من الصحفيين بعضهم وصل إلى كرسي رئاسة التحرير.
و«المسائية» تعد أول صحيفة مسائية في المملكة، فكان لها السبق الصحفي على بقية الصحف الأخرى، ومن المؤسف أن تتوقف هذه الصحيفة الأثيرة إلى نفوسنا جميعاً، وهي في زهرة العمر. نعم توقفت المسائية إلى الأبد، ولم يعد لها في النفس غير الذكرى كلما عدت إلى مجموعتي أقلّب صفحاتها وأشم رائحة أوراقها!
وبحكم قربي من الصديق عبدالله الحيدري أثناء فترة إشرافه على ملحق «إبداع» ورئاسة القسم الثقافي في «المسائية» وقبل ظهور التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، كان يواجه بعض الصعوبات، فالمقالات تكتب بخط اليد، وترد بالبريد التقليدي، فلم يكن آنذاك بريد إلكتروني، فيضطر إلى إعادة قراءة المقالات غير مرة لفك طلاسم بعض الكلمات غير الواضحة، هذا إذا سلمت تلك المقالات أو المواد من الضياع في البريد.
وكان من ضمن زوايا الملحق زاوية بعنوان «قراءة في ملحق إبداع الماضي» تعنى بنقد مواد الملحق الماضي من مقالات وأعمال إبداعية، ويكلف كل أسبوع أحد الكتاب لكتابة هذه الزاوية فتحدث طرائف ومفارقات عجيبة، فالكاتب ينسى أحياناً ما كُلف به، أو يسافر فجأة، أو لا يرد على هاتف المنزل، أو قد لا يكون لديه هاتف، فيقع المشرف في مأزق حقيقي إذا حان موعد تسليم المادة فيضطر احياناً إلى تكليف أكثر من شخصية لكتابة القراءة تحسباً لحدوث أي طارئ مفاجئ.
رافقت الحيدري في رحلات كثيرة داخلياً وخارجياً، فكان نعم الرفيق في السفر: لا يغضب، ولا ينتقد، ولا يعترض، ولا يشغل نفسه بحطام الدنيا، ويحافظ أشد ماتكون المحافظة على أداء الصلوات في أوقاتها.
كان صاحبي ـ ونعم الصاحب ـ يؤثرني على نفسه في كل شيء، ولا بأس هنا من إيراد هذه القصة، ففي إحدى رحلاتنا الخارجية طلبت منه أن يرافقني لتناول طعام الغداء في أحد المطاعم، فكنا في أشد شهور الصيف حرارة وبعد وصولنا إلى المطعم اكتشفت أنه صائم تطوعاً، وعندما عاتبته على مجيئه وكان يفترض أن يخلد إلى الراحة أجاب وهو يبتسم: وهل تريدني أن أدعك تذهب بمفردك؟
قبل أن أختم هذا المقال أود الإشارة إلى جانب مهم يتعلق بمؤلفات الصديق الحيدري، وهي تزيد على العشرة، وأشهرها « السيرة الذاتية في الأدب السعودي»، وهذا الجانب يستحق عليه شكر الشاكرين، وهو حرصه الشديد على خلو كتبه من الأخطاء الطباعية وعنايته الشديدة بعلامات الترقيم، ويكفي ان يعرف القارئ أن أطروحته الضخمة في الدكتوراه (ثلاثة أجزاء) عن نثر الأستاذ حسين سرحان رحمه الله تكاد تخلو من هذه (الآفة)، وأقصد الأخطاء الطباعية التي لم يسلم منها إلا قلة من المؤلفين السعوديين، أذكر منهم: الدكتور حمد الدخيِّل، والأستاذ حسين بافقيه، والدكتور عبدالله بن سليم الرشيد شفاه الله.
تهنئة من الأعماق للصديق الدكتور عبدالله الحيدري بمناسبة انتخابه رئيساً لمجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض، وفقه الله وسدّد خطاه في أداء مهمته الجديدة.
- الرياض