مرة أخرى عاد الحديث عن انقسام في جدار التحالف بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
وقد نشرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية تقريرا عن وصول تلك الانقسامات إلى الموقف من الحرب التي تقودها أمريكا في أفغانستان.
يقول التقرير: جاءت الاستقالة التي تقدم بها رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي على خلفية فشله في حشد التأييد اللازم لسياساته الخارجية بين أحزاب الائتلاف الحاكم رغم حصوله مرة أخرى على ثقة كل من مجلسي الشيوخ والنواب لتكشف الصعوبات التي تواجهها الحكومات الأوروبية في إقناع شعوبها بدعم السياسة الأمريكية في الحرب ضد الإرهاب.
اختلاف واضح فالسيد رومانو برودي الذي تولى منصبه منذ أقل من عام اضطر لتقديم استقالته بعد أن عجز عن إقناع البرلمان الإيطالي بوجود (اختلاف واضح) بين إرسال القوات الإيطالية لمحاربة حركة طالبان في أفغانستان وإرسال مثل هذه القوات إلى العراق.
المعروف أن إيطاليا سبق أن سحبت كل قواتها من العراق في أعقاب وصول حكومة برودي للسلطة في حين أنها تنشر 1950 جنديا في أفغانستان كجزء من قوات حلف شمال الأطلنطي (الناتو) التي تخوض الحرب ضد طالبان ويصل تعدادها إلى حوالي 30 ألف جندي من دول أوروبا وأمريكا الشمالية.
وقد جاءت دراما استقالة برودي بعد إعلان كل من بريطانيا والدنمارك بدء سحب قواتهما من العراق الأمر الذي يمثل ضربة لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش التي قررت مؤخرا نشر 21 ألف جندي أمريكي إضافي في العراق لتنفيذ خطة تهدف إلى فرض الأمن والاستقرار في العاصمة العراقية بغداد.
بريطانيا والفلسطينيون
وفي إشارة جديدة واضحة على ابتعاد أهم حلفاء واشنطن في أوروبا عن سياساتها في الشرق الأوسط أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير اعتزام بلاده التعامل مع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تضم وزراء من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) حتى لو لم تلتزم بكل شروط اللجنة الرباعية الدولية الراعية لعملية السلام وتضم الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا.
ورغم الأزمة السياسية التي مرت بها الحكومة الإيطالية والرفض الأوروبي العام لأساليب الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب فإن هناك تمييزا واضحا لدى النخبة السياسية في أوروبا بين الحرب التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان وتلك التي تقودها في العراق.
وهذا التمييز يستند إلى أسس واقعية وشرعية في الوقت نفسه؛ ففي حين أن هزيمة الولايات المتحدة في العراق يمكن أن تسبب بعض الاضطرابات في الدول الغربية فإن هزيمتها في أفغانستان سيكون كارثة للغرب كله على حد قول دبلوماسي غربي في العاصمة البلجيكية بروكسل حيث يوجد مقر الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي.
يقول أدم روبرتس الأستاذ في جامعة أوكسفورد البريطانية (الحرب في أفغانستان ينظر إليها باعتبارها قامت بشكل أساسي نتيجة هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية ووفقا لمبدأ الدفاع عن النفس الذي تقره مواثيق الأمم المتحدة وهذا هو ما يميزها عن الحرب في العراق).
ويضيف الأكاديمي البريطاني: (في أفغانستان الجهود التي تبذل دولية والقيادة جماعية عكس الحال في العراق. كما أن الحرب في أفغانستان أدت إلى عودة نحو مليوني لاجئ إلى ديارهم في حين أن الحرب في العراق حولت نحو مليوني عراقي إلى لاجئين.. وهذا هو ما يجعل الدول الأوروبية تميز بين الحرب التي تقودها أمريكا في أفغانستان وتلك التي تقودها في العراق رغم استمرار حالة الرفض العامة للسياسة الخارجية الأمريكية).
والحقيقة أن حكومة رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي حكومة ائتلافية هشة حيث تتكون من تسعة أحزاب من اليسار ويسار الوسط وكل ما يجمع بينها هو رفض سياسات الحكومة اليمينية السابقة برئاسة سيلفيو بيرلسكوني.
ولم تكن استقالة برودي نتيجة الفشل في إقناع حلفائه بالفرق بين الحرب في أفغانستان والحرب في العراق ولكن أيضا بسبب الفشل في إقناعهم بضرورة تمديد اتفاق عسكري بين الولايات المتحدة وإيطاليا مدته عامين بشأن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في إحدى المدن الإيطالية.
والحقيقة أن تنامي النظرة السيئة بين الإيطاليين تجاه المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل عام يقلص الفروق بين الحرب الأمريكية في العراق والحرب الغربية في أفغانستان من وجهة نظر الشعب الإيطالي وفقا لما يقوله المحلل السياسي الفرنسي برنار جيتا.
وقد تعمقت هذه الرؤية السلبية قبل أيام عندما أصدر أحد القضاة الإيطاليين أمرا باعتقال 25 من ضباط المخابرات الأمريكية لاتهامهم بالتورط في عملية اعتقال واختطاف رجل دين مسلم من إيطاليا ونقله إلى مصر دون إذن من السلطات القضائية الإيطالية عام 2003م.
وقد تظاهر الآلاف من الإيطاليين في مدينة فينيسيا التي تسعى أمريكا إلى تمديد وجود إحدى قواعدها بها.
وفي بريطانيا أعلن تولي بلير قبل أيام اعتزامه سحب 1600 جندي بريطاني من مدينة البصرة جنوب العراق في إطار خطة لسحب القوات البريطانية من العراق تكتمل بنهاية 2008م.
وقد حرص توني بلير على تأكيد الفرق الواضح بين المناطق الجنوبية في العراق الآمنة والعاصمة بغداد التي تشهد أعمال عنف مستمرة حيث قال إن البريطانيين أدوا دورهم في تحقيق الأمن بمدينة البصرة كبرى مدن الجنوب العراقي وأن (الفصل الثاني من المهمة سيكتبه العراقيون أنفسهم).
ولكن المعروف أن انتشار القوات البريطانية في العراق لا يحظى بتأييد شعبي واضح.
وقد كان بلير يتحدث في حضور خليفته المنتظر وزير الخزانة جوردن براون.
وينظر المراقبون إلى براون باعتباره يميل أكثر إلى تبني سياسات أكثر استقلالا عن السياسات الأمريكية.
فبالنسبة للقضية الفلسطينية تقول الولايات المتحدة إنها لا تريد التعامل مع أي حكومة وحدة وطنية فلسطينية قبل أن تعترف بالشروط التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية منذ نحو عام وأهمها أن تعترف حركة حماس الفلسطينية بإسرائيل وتعلن إدانتها للمقاومة المسلحة.
وفي الدنمرك التي تعتزم سحب كل قواتها البالغ قوامها 460 جنديا من العراق بحلول الصيف المقبل يميل الرأي العام إلى التمييز بين العراق وأفغانستان على حد قول ميجونس ياكوبسن الذي يدير مؤسسة إيبنيون لاستطلاعات الرأي العام في كوبنهاجن.
وكما هو الحال في بريطانيا فإن الحرب في العراق فقد الكثير من التأييد الشعبي للدنمركيين.
يقول ياكوبسن: (الانسحاب البريطاني من العراق قدم للحكومة نافذة للخروج لكي تتخذ قرارها بالانسحاب من هناك أيضا.. فقد تراجع التأييد الشعبي وأصبح الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للحكومة لكي تفسر للشعب سبب وجود الجنود الدنمركيين في العراق. لذلك فقرار بريطانيا قدم ورقة التوت التي تحتاج إليها الحكومة الدنماركية).
ورغم ذلك فإن بعض الدنمركيين أصبحوا يتشككون أيضا في جدوى العملية العسكرية بأفغانستان.
وكان السبب الرئيسي في ذلك الموقف الجديد التوتر في العلاقات مع القوات الأمريكية هناك حيث تريد بريطانيا أن تسلمها القوات الدنماركية أي أسرى حرب في أفغانستان لاستجوابهم في السجون التي تديرها القوات الأمريكية ويعتقد أنها تمارس التعذيب فيها.
ورغم ذلك فإن الحرب في أفغانستان لا تحتل مكانة متقدمة على جدول أعمال المعارضة الدنماركية.
ويمكن القول إن من بين أسباب الرفض الأوروبي المتزايد للسياسة الأمريكية حالة الإحباط التي أصابت الكثيرين من الأوروبيين بسبب رفض واشنطن العمل بشكل مشترك مع حلفائها في القارة الأوروبية. وحتى أغلب وزراء الخارجية الأوروبيين من بريطانيا إلى ألمانيا وفرنسا يعملون بشكل مشترك مع حلفاء الولايات المتحدة للتعامل مع قضايا أفغانستان والملف النووي الإيراني والصراع في الشرق الأوسط وأخيرا يدرسون القرار الأمريكي بنشر الدرع الصاروخي في أوروبا الوسطى.
وأخيرا نعود إلى المشهد السياسي في إيطاليا لنقول إن إيطاليا شهدت تشكيل 61 حكومة خلال 62 عاما بسبب التركيبة السياسة لها.
وقد نجح الائتلاف الحاكم في تجاوز أزمة استقالة برودي ومنح حكومته الثقة مرة أخرى لتفادي الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة تمهد الطريق أمام عودة يمين الوسط بزعامة بيرلسكوني إلى الحكم مرة أخرى.