كان مَن تقدمنا في عصور ماضية كحالنا يصيبون ويخطئون، يحسنون ويسيئون، يصدر منهم الخطأ كما يصدر الصواب، والكل من بني آدم عرضة للخطأ، وكانوا يقعون في الممنوعات شرعاً، كالغيبة والنميمة، والإشاعة الكاذبة وأكل الربا، والسفور والكذب، والخيانة والتزوير، والكهانة والافتراء، وشهادة الزور، وأكل أموال الناس بالباطل... إلخ.
يقعون في هذه المحرمات وتلك على حسب قدراتهم وإمكانياتهم وثقافتهم، الغيبة والنميمة عندهم بلا محسنات أو مقدمات أو مرغبات، السفور ضرره محدود ونطاقه ضيق، لا يستهدف إلا شريحة صغيرة من المجتمع، والربا بين تجار معدودين يستهدفون أعداداً معدودة، وقُل ذلك في الإشاعة التي لا تبلغ أبعادها إلا مسافة خمسين كيلو فما دون شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وقُل ذلك في أكل أموال الناس.. وهلم جرا.
أما اليوم، عصر الاتصال السريع، ونقل الصورة والصوت، عصر العولمة، عصر المرئيات والمسموعات، فقد ارتفع مستوى ثقافة أصحاب الموبقات وتجدد خطابهم، مع جودة الأسلوب وحسن العبارة، وبراعة الاستهلال.
وذاك لعمري من قُرب الساعة ودنوها، وهو أن يُصدّق الكاذب، ويُكذّب الصادق، ويُخوّن الأمين، ويُؤمّن الخائن، وتبلغ الكذبة الآفاق، ولنأخذ مثالاً:
الغيبة؛ حيث إنها داء العصر، ولا يسلم منها إلا أقل القليل، وهي تختلف عن غيبة الأمس (العصر الماضي) من حيث مستوى ثقافة أصحابها، وإمكانياتهم، والوسائل التي يستخدمونها في الغيبة، والافتراء، حيث وجدت الآلة والصوت والصورة التي تسهم في تحسين الغيبة، مع حسن الأسلوب، وجودة النص، وحضور الشاهد، والاستدلال بالدليل بعد لَيْ عنقه حسب أهوائهم، فمثلاً إذا أرادوا الطعن في أمير ما، انتقوا أمراء سابقين صالحين ثم أثنوا وترحموا عليهم لتحصل المقارنة بين الأمير فلان، والأمراء السابقين، والمراد بعد المقارنة انتقاص أمير العصر، وإذا أرادوا الطعن في عالم ما، إما لنشاطه أو علمه أو شهرته، قالوا بعد الحديث عنه: (الله يحسن القصد أو النيات)، ومرادهم رميه بالرياء، وإذا عجزوا عن هذا وذاك، فإنهم يركزون على السلبيات، ويقولون: هدفنا الإصلاح أو يقولون: الله يستر علينا وعليه! وقصدهم أنه ذو فضائح، ويقولون: اتركوه يا ناس! وهم يريدون ذمه بذلك، أو يقولون: ما يخفى أعظم! ولا أعظم من افترائهم، أو يقولون: يا رجال ما ودنا نتكلم في أحد! وهدفهم أن هناك أشياء خفية، أو يدعون مصلحة الأمة، أو الدفاع عن الحق، أو الذب عن السنة، أو غير ذلك من التعليلات الشيطانية.
الحق أن غيبة اليوم ليست كغيبة الأمس؛ فالناس بالأمس البعيد كانوا يلقون الكلام على عواهنه، من غير إعداد أو ترتيب أو تنظيم، ويقعون في الغيبة بشكل واضح وصريح، وقد يكون بشكل عفوي، أما اليوم فالغيبة وللأسف أصبحت فناً وأسلوباً دخلتها المقدمات، والمحسنات، وبراعة الاستهلال، مع وجود التقنية الحديثة، التي تنشر الغيبة بشكل كبير؛ ليشترك فيها الآلاف من الناس بل قد يبلغ الملايين.
فما أحسن عاقبة مَن وقع الناس في عرضه وأكلوا لحمه، وما أسوأ عاقبة الآكل والمغتاب.. والله الموعد.
وإلى اللقاء
* المجمعة