كلما أرخى الليل ستاره, وزاد ظلامه, كانت صلاة التراويح ألذ, ومناجاة الرب أكمل, احتساباً للأجر والثواب.
وكلما مر على الأكوان هلال رمضان, عاد إلى الناس حنينها إلى صلاة التراويح. فصلاة التراويح من السنن المؤكدة. كما في الحديث المتفق عليه, عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً, غفر له ما تقدم من ذنبه). وكما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ذات ليلة من جوف الليل, فصلى في المسجد, فصلى رجال بصلاته, فأصبح الناس فتحدثوا, فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه, فأصبح الناس فتحدثوا, فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة, فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فصلوا بصلاته, فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله, حتى خرج لصلاة الصبح, فلما قضي الفجر أقبل على الناس فتشهد, ثم قال: (أما بعد, فإنه لم يخف علي مكانكم, لكني خشيت أن تفرض عليكم, فتعجزوا عنها).
وإلى هذا المعنى يشير ابن عبد البر- رحمه الله - في التمهيد (8/ 108- 109): (قيام رمضان سنة من سنن النبي -صلى الله عليه وسلم-, مندوب إليها مرغوب فيها. ولم يسن منها عمر- رضي الله عنه - إذ أحياها إلا ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه ويرضاه. ولم يمنع من المواظبة عليه إلا خشية أن يفرض على أمته, وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما -صلى الله عليه وسلم-، فلما علم ذلك عمر- رضي الله عنه - من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلم أن الفرائض لا يزاد فيها ولا ينقص منها بعد موته -صلى الله عليه وسلم-, أقامها للناس وأحياها وأمر بها. وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة, وذلك شيء ادخره الله له وفضله به).
وقد كان جبريل عليه السلام يدارس القرآن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان كل ليلة, يسمعه ويتدبره ويتلوه, ويتأمل مواعظه وعبره ومعانيه ودلالاته, كما في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن, فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة. وفي العام الذي توفي فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عارضه جبريل القرآن مرتين. فاستنبط أهل العلم من تلك المدارسة والمعارضة بين جبريل عليه السلام والنبي -صلى الله عليه وسلم- مشروعية ختم القرآن في رمضان. فختم القرآن في رمضان وغيره, والدعاء عند ختمه, أمر محمود لصاحبه. وهذا لا إشكال فيه عند أهل العلم, بل هو مستحب, لحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (من قرأ القرآن فليسأل الله - تبارك وتعالى - به). رواه أحمد والطبراني. وكما في سنن الدارمي - بسند جيد - أن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - (كان إذا ختم القرآن الكريم جمع أهل بيته فدعا بهم).
وإنما وقع الإشكال بين أهل العلم في مسألة دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح والقيام. فهناك من أجازه بإطلاق, وهناك من لم يشدد فيه, وهناك من منعه, وقال: لا أصل للدعاء بعد ختم القرآن في الصلاة. فممن أجازه ابن قدامة - رحمه الله - في المغني (2-171) حيث قال: (فصل في ختم القرآن. قال الفضيل بن زياد: سألت أبا عبدالله, فقلت: أختم القرآن, أجعله في الوتر أو في التراويح؟. قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين. قلت: كيف أصنع؟. قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع, وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام. قلت: بم أدعو؟. قال: بما شئت. قال: ففعلت بما أمرني, وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه. قال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: (إذا فرغت من قراءة (قل أعوذ برب الناس) فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع. قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟. قال: رأيت أهل مكة يفعلونه, وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة. قال العباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة. ويروي أهل المدينة في هذا شيئا, وذكر عن عثمان..). قال الشيخ عطية محمد سالم تعقيباً على ما سبق: (يدل أنه كان عملا عاما في تلك الأمصار, مكة والبصرة والمدينة. ويشير إلى أنه لم يكن قبل زمن عثمان, كما يدل على أنه من عمل عثمان إن صحت عبارته, ويروي أهل المدينة في هذا شيئا.. إلخ. وعلى كل فقد فعله أحمد - رحمه الله - مستدلا بفعل أهل الثلاثة المذكورة, مستأنسا بما يروي أهل المدينة في هذا عن عثمان. مما يدل على أنه كان موجودا بالمدينة عمل دعاء الختم الذي يعمل اليوم في التراويح مع طول القيام).
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (11-333-334) أن كثيرا من الأئمة يحرصون على ختم القرآن في التراويح والتهجد لإسماع الجماعة جميع القرآن. فهل في ذلك حرج؟. فأجاب - رحمه الله -: (هذا عمل حسن, فيقرأ الإمام كل ليلة جزءا أو أقل, لكن في العشر الأخيرة يزيد حتى يختم القرآن ويكمله, هذا إذا تيسر بدون مشقة. وهكذا دعاء الختم فعله الكثير من السلف الصالح, وثبت عن أنس - رضي الله عنه - خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله, وفي ذلك خير كثير. والمشروع للجماعة أن يؤمنوا على دعاء الإمام, رجاء أن يتقبل الله منهم).
ويرى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - أنه لا أصل للدعاء بعد الختم من الصلاة. ففي فتاوى الشيخ (14-226) يقول: (والدعاء بعد ختم القرآن إما أن يكون بعد ختمة في الصلاة, أو خارجها. ولا أصل للدعاء بعد الختمة في الصلاة. وأما خارجها فقد ورد فعله عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -). وعندما سئل - رحمه الله - في فتاوى أركان الإسلام (354) عن حكم دعاء ختم القرآن في قيام الليل في شهر رمضان؟. أجاب: (لا أعلم في ختمة القرآن في قيام الليل في شهر رمضان سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا عن أصحابه أيضا. وغاية ما ورد في ذلك أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا, وهذا في غير الصلاة).
بل إن الشيخ بكر بن زيد - رحمه الله - لم يتردد في تأصيل هذه المسألة تأصيلا شرعيا, وتحريرها بأسلوب علمي في كتابه (الأجزاء الحديثية) المتسم بالمنهجية والمرجعية. ومما جاء في خاتمتها من مجموع السياقات في الفصلين السالفين, نأتي إلى الخاتمة في مقامين. المقام الأول: في مطلق الدعاء لختم القرآن - والمتحصل في هذا ما يلي:
أولاً: أن ما تقدم مرفوعاً وهو في مطلق الدعاء لختم القرآن لا يثبت منه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم, بل هو إما موضوع أو ضعيف لا ينجبر. ويكاد يحصل القطع بعدم وجود ما هو معتمد في الباب مرفوعا, لأن العلماء الجامعين الذين كتبوا في علوم القرآن وأذكاره, أمثال: النووي و ابن كثير و القرطبي و السيوطي لم تخرج سياقاتهم عن بعض ما ذكر, فلو كان لديهم في ذلك ما هو أعلى إسنادا لذكروه.
ثانياً: أنه قد صح من فعل أنس بن مالك - رضي الله عنه - الدعاء عند ختم القرآن, وجمع أهله وولده لذلك. وأنه قد قفا, أي: (تابعه) على ذلك جماعة من التابعين, كما في أثر مجاهد بن جبر- رحمهم الله تعالى - أجمعين.
ثالثاً: أنه لم يتحصل الوقوف على شيء في مشروعية ذلك في منصوص الإمامين أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله تعالى -وأن المروي عن الإمام مالك - رحمه الله - أنه ليس من عمل الناس, وأن الختم ليس سنة للقيام في رمضان.
رابعاً: أن استحباب الدعاء عقب الختم هو في المروي عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - كما ينقله علماؤنا الحنابلة, وقرره بعض متأخري المذاهب الثلاثة.
المقام الثاني:
في دعاء الختم في الصلاة - وخلاصته فيما يلي:
أولاً: أنه ليس فيما تقدم من المروي حرف واحد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من صحابته - رضي الله عنهم - يفيد مشروعية الدعاء في الصلاة بعد الختم قبل الركوع, أو بعده لإمام أو منفرد.
ثانياً: أن نهاية ما في الباب هو ما يذكره علماء المذهب من الرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - في رواية حنبل والفضل والحربي عنه - والتي لم نقف على أسانيدها - من جعل دعاء الختم في صلاة التراويح قبل الركوع.
وفي رواية عنه لا يعرف مخرجها, أنه سهل فيه في دعاء الوتر.
ثم يخلص الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - إلى أمرين, الأول: أن دعاء القارئ لختم القرآن خارج الصلاة, وحضور الدعاء في ذلك أمر مأثور من عمل السلف الصالح من صدر هذه الأمة. كما تقدم من فعل أنس - رضي الله عنه - وقفاه جماعة من التابعين, والإمام أحمد في رواية: حرب وأبي الحارث ويوسف بن موسى - رحمهم الله - أجمعين, ولأنه من جنس الدعاء المشروع.
وتقدم قول ابن القيم - رحمه الله -: (وهو من آكد مواطن الدعاء ومواطن الإجابة).
الثاني: أن دعاء ختم القرآن في الصلاة من إمام أو منفرد, قبل الركوع أو بعده, في التراويح أو غيرها: لا يعرف ورود شيء فيه أصلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من صحابته مسنداً.
يتبين مما سبق من أقوال الأئمة والعلماء - رحمهم الله تعالى - أن مشروعية دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح, أي: في صلاة الوتر أمر فيه سعة, ينبغي عدم التشديد فيه. إلا أن الإشكال هو ما يحدث منذ سنوات عديدة في الحرمين - المكي والمدني - وهو دعاء ختم القرآن في شفع, أي: في صلاة ثنائية من التراويح وليس في صلاة الوتر. حيث لا أصل للدعاء في صلاة ثنائية ولا يوجد نص يفيد مشروعية دعاء ختم القرآن في هذا الموضع, لأن الوتر هو مكان الدعاء كما هو ثابت في الشرع. فالعبادات مبناها على النص والتوقيف, وهذه قاعدة فقهية عظيمة.
يقول الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - في فتاوى أركان الإسلام (355): (ولو أن الإمام جعل الختمة في القيام في آخر الليل, وجعلها مكان القنوت من الوتر, وقنت لم يكن في هذا بأس, لأن القنوت مشروع). ويؤيد ذلك, ما ذهب إليه الشيخ سلمان بن فهد العودة, في كتابه - دروس رمضان وقفات للصائمين - (41-42): (هذا الدعاء الذي يقال عند ختم القرآن إن كان في صلاة فينبغي أن يكون في صلاة الوتر, سواء في التراويح أو في القيام, وذلك لأن الوتر هو الموضع الذي ثبت شرعا أنه مكان الدعاء, فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقنت في وتره, وعلم الحسن كما في سنن الترمذي - بسند حسن - أن يقول في الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت, وتولني فيمن توليت, وبارك لي فيما أعطيت, وقني شر ما قضيت, فإنك تقضي ولا يقضى عليك, وإنه لا يذل من واليت, تباركت ربنا وتعاليت). فالسنة أن يكون الدعاء في الوتر إذن, وسواء كان ذلك قبل الركوع أو بعده, فكلاهما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وإن كان أكثر دعائه بعد الركوع).
بكل عزم في الطلب, ورجاء في الاستجابة, أكتب ما تقدم إلى معالي الشيخ: صالح بن عبد الرحمن الحصين - الرئيس العام لشؤون مسجد الحرام والمسجد النبوي - فهو نموذج العالم بما أفاء الله عليه من علم غزير, وبصيرة نافذة, وتأصيل معرفي. وهو جامعة مستقلة, وقامة شرعية وفكرية. إذا عد أناس من أهل العلم والفضل والزهد والتقوى في العالم الإسلامي على الأصابع, عد الشيخ في مقدمهم. أن يعاد النظر في موضوع دعاء ختم القرآن في صلاة ثنائية, وأن تؤصل المسألة تأصيلا شرعيا, وحتى لا يحتج أحد علينا بقوله: في الوقت الذي تحاربون فيه البدع, تبتدعون ما لم يأت به الدين. فما المانع يا معالي الشيخ, أن يقرأ في كل ليلة جزء كامل من القرآن, فإذا كانت ليلة التاسع والعشرين, يُقرأ في القيام الأول الجزء التاسع والعشرون, وفي القيام الثاني من الليلة نفسها يقرأ الجزء الثلاثون, وبعدها يقرأ الدعاء في صلاة الوتر, لأن الوتر هو مكان الدعاء كما سبق؟.
بقي أن أشير إلى أنه ليس في السنة النبوية دعاء خاص بعد ختم القرآن الكريم, ولا حتى عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولا عن الأئمة المشهورين. أما ما ينسب في هذا الباب من دعاء ختم القرآن, والموجود في آخر كثير من المصاحف منسوبا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لا يصح ولا أصل له, بل إن الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله - لم ينسب هذا الدعاء إلى فتاويه, لعدم صحته.
drsasq@gmail.com