كثيرون هم الذين يكتبون عن ذكرياتهم، سواء بأقلامهم أو أقلام غيرهم، ويرصدون ما مرّ بهم في سجل حياتهم سواء بتدوين مرصود بدقة يومياً، وبكل خاطرة أو بتجميع عن الذاكرة وغيرها، ولكن بعضهم لا يهتم بالصغائر، أو يتنافل المواقف التي تمرّ، إذا لم يستحسنها، حسب الحوادث التي يمرّ بها بعض الكاتبين. فأسلوبه لا تكلّف فيه، وطريقته في العرض، لا تتعب القارئ، تجمع بين النادرة والبساطة، مما يسلي القارئ ويفيده، ويفتح أمامه آفاقاً، تعينه عندما يمرّ بمثل الظروف التي مرّت بالمؤلف.
ففي الجزء الحادي عشر من سلسلة وسم على اديم الزمن (لمحات من الذكريات) يربط ذلك في ذهن القارئ المتشوق، إلى توائم لهذه السلسلة: كنصائحه لابنه، وتوعية ذهنه، تحت مسمّى (أي بُنيّ) حيث يربط واقعه، بما مرّ بآبائه، وليست خاصة بابنه هو، بل هي من كل أب، ولكل ابن، وقد أخرج من هذه السلسلة على حدّ ما وصل إليه علمي، خمسة أجزاء كان تاريخ صدور آخرها عام 1414هـ.
ثم فتح باباً ثالثاً في هذه المكتبة المتميزة، بأقسامها الثلاثة، تحت مسمى رصد لسياحة الفكر، صدر الجزء الرابع في عام 1429هـ، يجمع هذه السلسلات قاسم مشترك في المظاهر والإخراج والبنط والحجم.
ففي الكتاب الذي بين أيدينا: الجزء الحادي عشر من وسم على أديم الزمن يهتم الدكتور عبدالعزيز الخويطر، بإيراد لمحات من ذكرياته الأخيرة، قبل استكمال الدكتوراه الذي جاء للدراسة من أجلها في هذا الكتاب الطبعة الأولى عام 1429هـ، والذي نراه لأول مرة في كتبه قد عهد إلى دار نشر في الرياض، هي دار القمرين ليسهّل على القارئ المهتم بهذه السلسلة: تتبعا وقراءة واقتناء لما فيها من الفائدة والمتعة، والتجارب المفيدة، ليربطها القارئ، بما قد يمرّ به من مواقف مماثلة: فيستفيد ويفيد، وخاصة في ديار الغربة.
وقد جعل أحداث هذا الجزء لآخر عامين في دراسته وهما عام 1958 - 1959م، ويحمد له اهتمامه بوالده - رحمه الله - وماله من حق من الثناء والذكر الحسن، والدعاء والبرّ إذ كلما أبعدته الذكريات، أو شطح به القلم، تأبى عليه نخوته ومكانة والده عنده، إلا ان يعود للحديث عنه موضحا ومعترفا بفضله، وموردا نموذجا من أعماله ويعذر في هذا لما للوالد عند أولاده من حق فرضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لمن وفقه الله في أداء هذا الحق.
ومع هذا فقد كرّر الثناء، على والده: عبدالله الخويطر، بما يستحق، بل أكد هذا بأن قال: انه ليس كالآباء وانه سابق زمانه، في حرصه على تعليم أبنائه لأعلى مؤهل خطر بباله فكان نعم الأب بعيد الغور، وعلى نفقته الخاصة، فساروا في الدرب، الذي اختطه هذا الرجل، رغم أنه لم يحمل مؤهلاً دراسياً، وكأنه قد أخذ بمقولة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، عندما سأل ابنه: ماذا تريد ان تكون في العلم؟ قال: مثلك يا ابي فقال: ثكلتك أمك، لقد كنت أتمنى أن أكون مثل علي بن أبي طالب في العلم، فقصر جهدي عن ذلك، وأنت عليك ان تنظر بعيداً، ولن تصله.
وهذا ما يريد الشيخ عبدالله الخويطر لأولاده بتوجيهاته ونصحه، حتى يبلغوا المعالي التي يريدها لهم.
ولذا نرى المؤلف في بدء الحديث، في هذا الجزء من كتابه، يذكر أخبار مرض والده التي كانت تؤرقه، ثم خبر وفاته، الذي يعتبر أكبر حدث يهمه، وقد ذكر ذلك في أربع صفحات، في المقدمة ثم عاد لذلك في أماكن من هذا الكتاب، تنبئ عن مكنون قلبه، وما يجب أن يؤديه الولد البار لوالده، أداء لحق الله في التوصية بالوالدين، وردا للجميل المتناهي الذي بذله هذا الأب.
ولما كان معالي الدكتور يكرر الحديث عن والده في هذا الكتاب، مرات وأورد نماذج من رسائله لابنه، الذي كان يحضه نصحا وتوجيهات علاوة على الناحية المادية والمعنوية في أجزاء هذه السلسلة، فأرى أمرا لابد أن يكون قد اختمر في ذهنه، تجميع ما يتعلق بالأب، مما رصد وعلق في الذهن أو كان من رصيده عند الناس، بالمساعدات والنصح، لأن (العُرف لا يذهب عند الله وعند الناس) وخروج ذلك في سفر مثقل كجزء من الذكريات.
دفعني لذلك الاقتراح، تلك الدروس الجديدة، فترة وجوده في لندن للعلاج، وما دار من حوار بين الابن والأطباء بعد تشاورهم في حالة الشيخ عبدالله (ص 86) الذي قررّوا فيه: ان الأب ليس فيه إلا الكبر والشيخوخة وسوف لا يستفيد من أي مقو يعطى له، لان انسجة الجسم لا تتقبل ذلك، ولا تستجيب الخلايا للأدوية.
كما ان الغدد لا تتجاوب لضعفها، والأفضل ان يسافر إلى أهله إلى آخر ما ذكروا نتيجة تشاورهم. فأراد الابن ان يخفف الوطأة على أبيه بعبارات استجمعها لكن الأب لذكائه، ولما بقي لديه من فهم في اللغة الانجليزية، عندما كان يطلب الرزق في الهند، حيث عاش فترة من الزمن أدرك السبب فأجاب ابنه بإيمان قوي، وعقيدة راسخة قائلاً: ليس هذا كل ما قالوه، وأنا أخبرك بما أتصّور أنهم قالوه، - وهو الحق - قالوا: ما مؤداه: انه لا علاج له، والأفضل أن يذهب يقضي باقي أيامه عند أهله.
لكن يا ابني الموت حق ولا يخيف من هو في مثل سني، وفي مثل حالتي وأنا لو عرضت عليّ حياة من جديد، ما اخترت غير الحياة التي عشتها ليس لدي - والحمد لله - ما يشين أو أخجل منه، أو أندم عليه، ولا أزكي نفسي والله كريم وحتى ان كنت مقبلا على الموت، وعندي أطفال صغار ونساء يهمني أمرهم، فأنتم - والحمد لله - رجال وفيكم البركة، تجاه أهلكم واخوانكم، وتأكد يا ابني كذلك انه لا أحد يطلبني شيئاً إلا رجلا ذكره له (86 -110) وغير هذا مما ذكر عن شهامة ومواقف والده. إنها دروس وعظات في مسيرة الأقدمين، الذين عركتهم الحياة وطوحوا يمينا وشمالا لطلب المعيشة وغرّبوا في سبيلها، لا يتحمل الحيز ذكر ما بان في حياة هذا الرجل الذي هو انموذج لجيل خالطوا الآخرين، واستفادوا منهم إلا أنني ارجو من معالي الدكتور ولا أخاله إلا فاعلاً - كما ذكرت من قبل - المبادرة بكتاب عن سيرة والدكم، مبرزا نماذج من مواقفه نحو الآخرين، واصداء جمائله مع المحتاجين عندما كان في المالية بمكة والرياض، والتي ذكرتم في هذه الحلقة من الذكريات، طرفاً منها.
ان في بلادنا نماذج فذة من هذا النوع، ولكن سيرهم وأعمالهم طواها النسيان والغفلة عن الرصد. - في هذه الذكريات، نرى المؤلف - كما قال - قد اعتمد في هذا الجزء، والأجزاء قبله على الذاكرة ما أمكنه ذلك وعلى ما دونه في مذكراته الخاصة بهاتين السنتين 58- 1959م، مستعينا بما جاءه من خطابات متبادلة مع والده، وذوي قرابته، يدوّنها يوماً بيوم، وبتاريخها - ويعتذر عن اعتماد التاريخ الإفرنجي لأنه السائد في بيئته، ويهتم بمن التقى به، وتعرّف عليه من سعوديين وعرب وانجليز، وما تم مع بعضهم من ذكريات ومواقف طريفة (25 -79) وبلغت الصور التذكارية 29، والرسائل الأسرية 16 موزعة على صفحات هذا الكتاب.
وجاء في ذكريات عام 1959م في شهر اغسطس لقاؤه بالأخوين إبراهيم الزيد وسليمان الخضير، وصحة اسمه: الخضيري بالياء، حيث وصلا لندن لدراسة اللغة على حساب شركة الجميح في الرياض، ولعله لم يعلم عن وفاة إبراهيم رحمه الله، حيث لم يطل عمره بعد عودته من لندن، وتسلمه إدارة التأمينات الاجتماعية (246 -247).
- وفي ص 260 ذكر موقفا طريفا، وما أكثر الطرائف عنده، وذلك عندما زاره عبدالرحمن الحميدي مع شخص آخر لم يسمّه وقد بادره الحميدي بعدما جلس عنده، هل تعرف عبدالرحمن الحميدي، حيث لم يعرفه من قبل فأجابه انه يسمع عنه، وان له مركزاً مرموقاً في الديوان الملكي، وانه متقدم في السن وله لحية كثة.. فأجابه الحميدي مبتسماً: انا عبدالرحمن الحميدي، وكما ترى لست متقدما في السن، ولا لحية لي البتة (259- 264) والكتاب يقع في (401 صفحة) بفهارس للموضوعات والإعلام والأماكن فقط، استحوذت على 32 صفحة تبعها نبذة عن المؤلف وكتبه وسيرة حياته، وهو كتاب جميل ظريف.
من أخبار بختنصر
جاء في نهاية الأرب للنويري: أن بختنصر اسمه بالفارسية (بخترشه) وأنه وجه قائدا له، فأتى بيت المقدس، فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من بني داود عليه السلام، وأخذ منه رهائن وانصرف، فلما بلغ طبرية، وثب بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه، وقالوا له: إنك هادنت على الكفر، وخذلتنا، واستعدوا للقتال، فكتب قائد بختنصر إليه: يخبره بما فعل بنو إسرائيل، فأجابه أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأمر بضرب أعناق الرهائن الذين معه.
وسار بختنصر حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة وسبى الذرية، وهرب الباقون إلى مصر، فكتب بختنصر إلى ملك مصر، أن عبيدا لي، هربوا مني إليك، فسرحهم إلي، وإلا غزوتك، وأوطأت خيلي بلادك، فكتب إليه ملك مصر: إنهم ليسوا عبيدك ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، وامتنع عن إنفاذهم إليه. فغزاه بختنصر وقتله، وسبى أهل مصر، ثم سار في أرض المغرب، حتى بلغ أقصى نواحيها.
ثم قال: وقد حكى أهل التوراة، وغيرهم في أمر بختنصر أقوالا كثيرة مختلفة، فذكروا منها: أن بختنصر لما خرب بيت المقدس، أمر جنوده، أن يملأ كل رجل منهم، ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه من التراب ما ملأه.
قال: ولما انصرف إلى بابل اجتمع معه سبايا بيت المقدس، من بني إسرائيل وغيرهم، فاختار منهم سبعين ألف صبي، فلما فرق الغنائم على جنوده، سألوه أن يقسم فيهم الصبيان، فقسمهم في الملوك منهم، فأصاب بكل رجل منهم أربعة، وكان من أولئك الغلمان، الذين سباهم: دنيال النبي، وحنين ونتشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا، من سبط بشر بن يعقوب..
ثم غزا بختنصر العرب، وذلك في زمن معد بن عدنان.
قال: وكانت مدة غلبة بختنصر، إلى أن مات أربعين سنة، ثم ملك واحد من أبنائه، ثم الثاني في زمن (بهمن) فعزله وملك مكانه (كيرش)، وتقدم إليه (بهمن) أن يرفق ببني إسرائيل، وينزلهم حيث شاؤوا أو الرجوع لأرضهم، وأن يولي عليهم من يختارونه، فاختاروا (دنيال) عليه السلام فولاه أمرهم، فكانت مدة خراب بيت المقدس سبعين سنة (نهاية الأرب 15: 159 - 160).