الشارع العربي يعيش حالة من الاحتقان والتوتر، ولمَّا تزل لديه قابلية لممالأة أي تصرف يخفف من معاناته ومرارة انكساراته، فهو كأي مادة مضغوطة وقابلة للاشتعال تظل بانتظار أي مثير مهما كان صغيراً ليتدفق عبر الشوارع ووسائل الإعلام، |
حتى إذا أفرغ شحناته الانفعالية عاد كأن لم يكن شيء بانتظاره. |
والإعلام المتهافت على بؤر التوتر المتهالك على الإثارة المجانية لا يتردد في التقاط أبسط الأشياء والنفخ فيها حتى تسد الأفق، وبراعته في القدرة على تجييش العواطف وتحشيد المشاعر، وليس يعنيه بعد هذا أن يكون الحدث في مستوى التداول والتصعيد أو لا يكون، كل همه أن تَفِيضَ ساعاته العجاف بالمحفزات والمثيرات، وأن يشد الانتباه، ولقد يصل التصعيد بالوقوعات الصغيرة إلى حدِّ القداسة وتحريم المساس بها، حتى لا يجرؤ أحد على القول المخالف، ومن ثم يكون التسليم للأمر الواقع على حد: |
(وما أنا إلا من غزية إن غوت |
غَوَيْتُ وإن ترشد غُزَية أرشد) |
وإسهام هذا اللون من الإعلام في تشكيل الرأي العام يعد من المقترفات التي لا يمكن احتمالها، وكم قيل عن الإعلام الفضائحي وعن أثره السَّيِّئ، ولاسيما في ظل الإمكانيات المذهلة والظروف الضاغطة، فانفجار التقنية وثورة الاتصالات ومعايشة الحدث صوتاً وصورة مسرح العالم، وحوَّله إلى قريةٍ صغيرة يطل عليها الإنسان الخلي والشجي وهو متكئ على أريكته، يعرف بأقل الجهد والوقت أدق الأشياء عن دقيق الأحداث وجليلها، وفشل الإنسان في استثمار هذه الإمكانيات والتقنيات العالية يحول دون تحقيق المراد، وما على المتردد إلا أن يدخل على المواقع، أو أن يتنقل بين القنوات، أو أن يجيل نظره على أنهر الصحف وبطون المجلات ليصاب بالصدمة المذهلة. |
ولقد يكون من الفضول الخوض في الحديث عما بدر من الصحفي العراقي أثناء اللقاء الصحفي الذي عقده الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء العراق في المنطقة الخضراء المحكمة الحراسة في بغداد؛ إذ ربما يكون الحديث عنه مغامرة ومقامرة، فالكاتب الراصد للأحداث بموضوعية وحيادية قد تتنازعه المواقف، وشعور المكتوي بنار الاحتلال لن تجاريه مشاعر المراقبين للأوضاع عن بُعْد، والشارع العربي الذي هيَّجه الحدث وأشعل مشاعره لا يمكن الخوض في معمعته دون التعرض لرشقات مماثلة للحدث، غير أن الكاتب مؤتمن كالمستشار ومسؤول عما يقول: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} و{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} والحديث في قضايا الأمة مشاركة فعلية في صنع القرار وفي المسؤولية، فالرجل يقول الكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار، والكاتب يسطر الرأي الفطير أو الحصيف في الشأن القومي يهوي به في مكان سحيق أو يبتدر رأيه سبعين ألف ملك { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُُ} ، ولقد يكون الحدث أقل من عادي، ولكن الظروف الضاغطة والأوضاع المأزومة تجعله حدثاً مصيرياً وتاريخياً. |
ولعلنا نتذكر حادثة (محمد الدرة) وكيف تحوَّل قتله العارض إلى انقلاب في الرأي العام مع أن الحدث خال من أي تحرف بطولي أو جهادي، فالطفل وأبوه كانا يمشيان في الأسواق لقضاء حوائجهم اليومية المعتادة ولم يكونا في العير ولا في النفير، وصادف أن كان مرورهما في لحظة صدام مسلح بين جيش الاحتلال والمقاومة، حيث استقرت رصاصة طائشة في جسد الطفل، وبقدرة قادر يتحول الطفل وأبوه إلى بطلين بالصدفة وتتحول معهما لغة الشارع العربي إلى لغة ثورية عارمة وينتزع الدرة وشاح البطولة دون غيره من الفدائيين، وبعد استنزاف المشاعر يسدل الستار إلى الأبد. |
ومباركة التضحية أو التحفظ عليها من الصحفي العراقي لابد أن يحالا إلى المواطنة الحقة أو العمالة المدانة، ولن يحالا إلى الرؤية المستقلة التي لا تمس المواطنة بسوء في حالة الإشادة، أو الإدانة، بحيث تكون إحدى الرؤيتين مفضولة أو فاضلة، ويكون صاحبها أصاب المحز أو جانب الصواب، بحيث لا يزكَّي ولا يخوَّن أحد الطرفين، فالحدث من حيث هو تعبير عن مشاعر الاستياء من الأوضاع القائمة بلغة غرائبية ومفاجئة، ولكل إنسان رؤيته في التعبير عن مشاعره وليس من حقه أن يختصر التعبير عن مشاعر الآخرين برؤيته أو بتصرفه، وبعيداً عن الأجواء المشحونة بالتوتر العاطفي فإن الرئيس الأمريكي في نظر الأغلبية العالمية يعد أسوأ رئيس مر على البيت الأبيض، وأثر تصرفاته غير السوية أساءت إلى الإنسان الأمريكي، وسيظل أثرها السيئ قائماً في الواقع ونكتة سوداء في التاريخ، والرجل الأمريكي عبّر عن موقفه بأسلوب حضاري تمثل باكتساح المرشح الديمقراطي لخصمه الجمهوري، وخروج بوش من البيت الأبيض محملاً بالأوزار أمضى وأمضّ عقاب، ومهما تحامل على نفسه وأخفى مرارة الفشل السياسي الذريع فإن الواقع يستعصي على التبرير ولسنا بحاجة إلى التذكير بالنكسة الاقتصادية واستفحال الكراهية للمؤسسة السياسية الأمريكية، وما من رجل سوي يستطيع أن يلتمس أي مبرر لتصرفات الحكومة الأمريكية، غير أنه مهما اختلف الشارع العربي مع السياسة الأمريكية فإن المؤسسات السياسية في العالم التي تتبادل الاتفاقات والمعاهدات والعلاقات ملزمة باحترام السيادة وتبادل (البروتوكولات) بالمثل، والإسلام يكون في حالة حرب مع أي دولة، ولكنه يستقبل الوفود والرسل على مختلف المستويات ويوفر لهم الأمن والكرامة، وتوفير الأجواء الملائمة واللائقة للأعداء في حالة اللقاءات والمباحثات من متطلبات السياسة الإسلامية والعلاقات الدولية { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}. |
ومن هنا قد أميل عاطفياً مع أي تصرف غير مسؤول وأجد فيه شفاء لمعاناتي وقهري، ولكنني أتردد في قبول مثل هذا التصرف عقلياً، فالعالم بمؤسساته وقوانين علاقاته الدولية ليس محتكراً للشارع العربي الذي يغلي بالكراهية لمن ظلمه، ومن ثم فإن له رؤيته المحكومة بالقوانين الدولية وأنظمة العلاقات |
وفي ظل احتمالات ردود الأفعال الأعنف فقد يترجم المعنيون مواقفهم بتصرف أقسى وأمرّ ومؤسسات الاستكبار السياسي قد لا تفرق بين تشنجات الشارع العام وتصرفات المؤسسات المسؤولة، ولقد يتساءل الرجل الغربي الذي لا يتفق مع مؤسسته السياسية والعسكرية ويمينه المتطرف عما إذا كان التعبير عن مشاعر السخط بإهانة رئيس أكبر دولة في العالم بهذا الأسلوب المهين بطولياً وحضارياً، ولعلنا نذكر الرد القاسي والموجع الذي نفذه (بيل كلنتون) حين اكتشف مؤامرة اغتيال (بوش الأب) عند زيارته للكويت بعد عملية التحرير، وذلك بتدميره لمبنى المخابرات العراقية في قلب بغداد. |
بقي أن تتلقى المؤسسات السياسية هذا الحدث المثير على أنه رسالة بلغة غير حضارية، وهي ممكنة التبادل، فالرأي العام يفاجئ المشاهد بلغات أشد مضاضة من لغة القول، وكم نرى ونسمع عن (لغة الجسد) وإمكانية قراءة الأفكار من خلال الإيماءات. والاتصال غير الشفهي تعبير فصيح ومؤثر وناقل للمواقف ومجسد للمشاعر، وعلى الأطراف المعنية احتواء الموقف بلغة العقل لا بلغة العواطف والتشنجات. |
أعود لأقول: إننا مع الصحفي العراقي بعواطفنا ولكننا لسنا معه بعقولنا. |
|