لست في حاجة للحديث عن (غزة) وما حصل فيها من دمار وقتل وإبادة من قبل الفئة المغضوب عليها، فقد كفتني ذلك وسائل الإعلام وأقلام الكتاب، وما منعني عن الكتابة عن (غزة الإباء) أيام حربها، وتناثر الأحقاد على ترابها إلا عدم القدرة .
على مسك القلم لألم اعتصر ويعتصر فؤادي، وعودة الدموع لعينيَّ في عصر جفّت فيه الدموع، وتململ قلبي في عصر قد تحجرت فيه القلوب..!!، ولهذا عديت ذلك بشارة من أن هناك حياة مقبلة ولكنها مشوبة بحزن وقلق لما أصاب إخوتنا في (غزة)، تلك التي قال عنها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم (أبشركم بالعروسين: غزة، وعسقلان) أو بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم، وهي تلك التي فتحها معاوية بن أبي سفيان أيام عمر بن الخطاب، وهي تلك التي ولد فيها محمد بن إدريس الشافعي سنة خمسين ومائة ذلكم الذي يجعل الليل ثلاثاً؛ ثلثاً لتحصيل العلم، وثلثاً للعبادة، وثلثاً للنوم(1).
إن غزة فلسطين كانت مسرحاً لنثر حقد (يهود) تلك الفئة الطاغية التي وُضعت من قبل الصهيونية العالمية لتكون أداة سلب ونهب وقتل، ولتكون أيضاً جسراً يمضي عليه المستعمر الغربي لتحقيق أطماعه في الشرق الإسلامي، ومن هنا، فإن ما يسعد هذه الفئة يسعد الغرب، وما آلمها يؤلمهم، بان لنا ذلك كله في هذه الحرب الأخيرة، عندما اجتمع زعماء أوروبا في مصر، ومن ثم ذهابهم إلى فلسطين علَّهم يطمئنون على أدواتهم وأداتهم.
إن الصهيونية العالمية قد غرست في أذهان يهود (فكرة الاضطهاد) من لون الآخر، ولذا فقد تحول اليهود إلى إرهابيين للتخلص من هذه العقدة التي رسخها في أذهانهم (هرتزل) وهو من أبرز دعاة الصهيونية السياسية، قال (توحّد المسألة اليهودية (فكرة الاضطهاد) أينما وجد اليهود بأعداد كبيرة، ذلك أننا ننقاد دوماً إلى الأمكنة التي لا اضطهاد فيها، ولكن حينما نبدأ نجتمع هناك يبدأ اضطهادنا (2)، ومن أجل هذا نجد أنه قد ورد في إحدى الصحف الإسرائيلية: (إن الجيش الإسرائيلي ليس جيش احتلال، لكنه جيش دولة يقاتل من أجل مصالح أمنية كبيرة، ومصالح إستراتيجية لا صلة لها بحدودنا مباشرة..)(3).
ولكي يتحولوا من فكرة الاضطهاد هذه، فإن جيلاً كاملاً من (يهود) الذين تجمعوا من الشتات وأخذوا في التجمع في أرض الديانات (فلسطين) حيث لا اضطهاد فيها قد أخذوا على عواتقهم تكوين دولة في المنفى (فلسطين) لا ترتبط في المنطقة بأي نوع من الروابط، إنما هي جسر عبور للمصالح الاستعمارية وقاعدة استعمارية غربية يسكنها أناس يؤمنون بالفكر اليهودي ومن أجناس مختلفة ومتعددة(4) ولأنها من أماكن شتى، وعند هذه الحال فلا تأريخ لها، ولذا، فإن من يتولى منصباً في دولة (إسرائيل) يحاول أن يبني له مجداً على حساب الآخر، فيسخّر هؤلاء الذين يأتون من الشتات ويجتمعون في فلسطين ويجعلهم أدوات بيده ليقمع الآخر من خلالهم وليبني له مجداً كما فعل المماليك قبله مع اختلاف في التوجه والحال، ومن هنا نجد أن دولة إسرائيل دولة إرهاب سعت من خلال هذا التفكير من لدن أصحاب المناصب فيها لتثبيت كيانها، وتوسيع حدودها، وتفريغ فلسطين من أهلها، مستخدمة في ذلك أساليب كثيرة استمدتها من الفكر الصهيوني والتقليد الموروثة في هذا الفكر. فالمذابح الجماعية التي تحدثت عنها كتب اليهود القديمة هي النموذج الذي استخدمته، وسارت على هديه فيما بعد المنظمات الصهيونية وإسرائيل(5).
إن فكر الصهيونية ومن خلال (يهود) لن يطبق في فلسطين إلا من خلال أدوات القمع والإبادة، وبالتالي نجد أن الصهيوني (جابوتنسكي) قد قال عام 1933م: (إن الصهيونية استيطان، ولذا فهي تحيا وتموت مع القوة المسلحة..)(6)، ولذا نجد أن الحركة الصهيونية تدرس التأريخ متخذة من ذلك قاعدة مؤداها: (أن القوة فوق الحق) واستناداً إلى هذا المبدأ، قرر (هرتزل) مؤسس الصهيونية: (أن الأمة اليهودية سوف تبقى، أما ما عداها فسوف يزول، بل ويجب القضاء عليه لأنه غير أهل للبقاء..)(7) على أن هذا المبدأ لن تستطيع إسرائيل وحدها تطبيقه، ولذا فلا بد والحالة هذه من التعاضد مع (الامبريالية، فلا غنى لها عن الارتباط العضوي بالدول التي تجسد هذا المبدأ (الامبريالي) وتمارسه(8).
لقد ورد في البروتوكول التاسع من بروتوكولات صهيون: (نحن مصدر الإرهاب الراعب في كل مكان. ويتهالك على خدمتنا أناس ينتمون إلى مختلف الملل والنحل من ملكيين وجمهوريين واشتراكيين وشيوعيين، ومن كل أنواع الحالمين بالطوبيان، كلهم مقرنون في الأصفاد لخدمتنا، وما من أحد منهم إلا وهو ينسف بأسلوبه الخاص ما تبقى من كيان السلطة، ويحاول بكل قوة تحطيم النظام القائم، مما جعل الحكومات في عذاب لا قبل لها باحتماله، فهي مشغولة بالاستفاتة، مبدية استعدادها بالتضحية بكل غال عزيز في سبيل أن تنعم بالسلام، ولكننا لن نهب لها السلام الذي تتمناه إلا إذا خرّت راكعة ذليلة صاغرة تعترف بحكومتنا العالمية العليا...(9).
وفي البروتوكول نفسه: (إنه عند تطبيق مبادئنا يجب أن نأخذ في الحسبان أخلاق الشعب الذي نشاركه الإقامة والعمل في وطنه، وسيكون نجاح تطبيق مبادئنا بكل ما حوته باهراً عندما يكون تعليم هذا الشعب مصوغاً من قبل منهجنا، والذي إذا أحسنا استعماله فسنجد هذا الشعب بعد عشر سنين قد تغيّر حتى في أشد أخلاقه متانة، وبذلك نضيف شعباً جديداً إلى قائمة الشعوب الخاضعة لنا...، وعندما نقيم مملكتنا نحول في شعارنا الماسوني كلمات، مثل -الحرية، المساواة، الإخاء- إلى كلمات لا تحمل المعاني التي قصد إليها الشعار، بل نخرج بها إلى مجال التصور لتعبر عن فكرة خيالية فنقول: -حق الحرية، وواجب المساواة، وكمال الإخاء- وكذلك نصنع في الكلمات الأخرى وبذلك نمسك الثور من قرنيه..)(10).
إنني وأنا أقرأ ذلك في الكتب أجد أن الواقع يترجمه بشكل حرفي، فما عملقه يهود فلسطين وما تعمله ما هو إلا ترجمة عملية لفكر الصهيونية ذلكم الذي يسعى للسيطرة على العالم من خلال: المال والمؤامرات والاغتيالات والدعاية وبث القلق والشكوك والاضطرابات خلقياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً..)(11).
إن هذه الشرذمة من البشر قائمة على الإرهاب، فذلك ماضيهم منذ فجر التأريخ، وبالتالي هم الذين غرسوا بذرة في (فلسطين) وفي الشرق الأوسط(12) وقد تعهدوا هذه البذرة حتى كان آخر نتاجها ما حصل لغزة في هذه الأيام من إبادة وتدمير، وهم مع ذلك ومع كل أعمالهم يحاولون إلباس هذه الكلمة (الإرهاب) الآخر وهم أهلها ومن زرعها.
إن ما سهل زرع بذرة الإرهاب اليهودية في أرض فلسطين ما زرعه مفكروهم في عقولهم، حيث ترسخت في عقليات اليهود مقولات، من مثل: (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وهي مقولة زنجويل المفكر الصهيوني، وعندما وجدوا شعباً مقاتلاً وعنيداً لا يرضخ للحلم اليهودي، غُيّرت تلك المقولة إلى مقولة (الحقل المهجور) وقد سعى الفكر اليهودي خاصة في أدبياته إلى وصف فلسطين وهي تحت السيطرة العربية بأنها بقعة متخلفة متدهورة يديرها أناس متخلفون، جاءت الصهيونية لتنهض بها وتكسوها ثوب الحضارة والتقدم...)(13).
إن إرهاب يهود العسكري قد غلب الإرهاب الفكري، وإن كان الأخير يصور العربي في رواياته وقصصه بأبشع الصور وأسوأ الألقاب، وعند هذه الحال نجد أن الآلتين (الدبابة والقلم) قد تكاتفتا لتكوين صورة قاتمة عن أهل الدار وأنه ينبغي التخلص منهم بأي حال، وفي أية صورة.
بين غرناطة.. وغزة تأريخ مؤلم:
إن اليهود وقد عرفنا ذلك كله عنهم، قد فعلوا في (غزة) مثلما فعله قبلهم النصارى في (غرناطة) الأندلس، إذ تتبع هؤلاء خطط أولئك، حاصروا غزة مثلما حاصر النصارى (غرناطة)، جوّعوا أهل غزة، مثلما جوّع النصارى أهل (غرناطة)، ضايقوا أهل غزة، مثلما ضايق النصارى أهل غرناطة.
تأريخ مضى، وتأريخ حاضر
مِلة الكفر واحدة
بين غرناطة وغزة يتوارث الألم
وما أسوأ الألم حين يتوارث
بين غرناطة وغزة وشائج تأريخية
معاناتهما واحدة،
انتهت الأولى، وما تزال الثانية
وأرجو ألا تزول
ولن تزول
أقوال غربية تصب في صالح (يهود)(14):
- قال مورو بيرجر: (يجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب، لأن قوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره..).
- قال أيوجين روستو: (... إن الظروف التأريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي).
إن أمريكا لا تستطيع إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي، والدولة الصهيونية لأنها إن فعلت عكس ذلك، فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها.
- وقال هاملتون جب: إن الغرض من الجهود المبذولة تفتيت الحضارة الإسلامية وتغيير خصائصها تغييراً جذرياً عن طريق النشاط التعليمي والإعلامي والثقافي الذي من شأنه أن يترك المسلمين -من غير وعي منهم- أثراً يجعلهم يبدون في مظهرهم العام لا دينيين.
(1) من: آثار البلاد وأخبار العباد، للقزويني ص 227.
(2) انظر كتاب: اليهودية والصهيونية. هشام الدجاني ص 14-15.
(3) انظر كتاب: الكفاح المسلح في وجه التحدي الصهيوني. العماد مصطفى طلاس ص 157.
(4) انظر كتاب: الاستعمار وفلسطين (إسرائيل مشروع استعماري). رفيق النتشه ص 36.
وقبله انظر: السّاميون ولغاتهم. د. حسن ظاظا، ص 10 وما بعدها.
(5) انظر: مجلة (عالم الفكر) الكويتية. المجلد 28، العدد 1، يوليو - سبتمبر 1999م. ص 85 مقال بعنوان (العرب والصهيونية والقرن الحادي والعشرون) د. هيثم الكيلاني.
(6) انظر: المجلة السابقة، ص 84.
(7) انظر: السابقة، ص 83.
(8) انظر: السابقة، الصفحة نفسها، وانظر كتاب قوى الشر المتحالفة لمحمد الدهان ص 15-16.
(9) انظر: بروتوكولات صهيون. ترجمة أحمد عبدالغفور عطار، ص 77.
(10) انظر: السابق، ص 76.
(11) ورد ذلك في أفكار جمعية شباب صهيون والجمعية السرية (ابن موشه) وقد ظهرت في مؤتمر عقد في عام 1897 والمعروف بمؤتمر بال وبنوده سرية.
(12) انظر مقال: شريف الشوباشي (اليهود أول من اخترع الإرهاب في التأريخ) في صحيفة الوفد المصرية، 14 يناير 2009م.
(13) انظر: المقال المعنون ب(استراتيجية الأدب الصهيوني لإرهاب العرب) وهو عنوان رسالة علمية لمحمد حميدة، بقلم ممدوح أبو زيد. مجلة (التوباد) المجلد الثاني، العددان الأول والثاني، محرم - جمادى الآخرة 1409ه.
(14) انظر: قوى الشر المتحالفة (مرجع سابق) ص 15-16.