(الجزيرة) - خاص
تختلف الثقافة الشرعية، والعلمية، بل ومهارات الإلقاء والخطابة، وشد انتباه عموم المصلين، وكذا المستمعين، والحاضرين من خطيب إلى آخر، حيث يقف مخاطباً، وداعياً، ومرشداً وموجهاً للمسلمين من خلال منبر الجمعة، أو المحاضرة، أو الكلمة التوجيهية والوعظية، إذ إنه يقف موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الوظيفة الشرعية.
في ظل ذلك ومع تعدد حاجات المجتمع وتشعب قضايا الأمة ومشكلاتها التي تحتاج إلى علاج، ووجود التيارات المختلفة، كيف يمكن أن نصل بالخطيب إلى الجمع بين الحماس أثناء إلقاء خطبته والانضباط والبعد عن التهور، وكيف يمكن حفز الخطباء لرفع حصيلتهم العلمية ورفع مستوى الوعي لديهم لتكون خطبهم أكثر نفعاً في تحقيق المصالح ودرء المفاسد وتوظيفها لما ينفع الناس؟
المستوى الشرعي
يقول الدكتور أحمد بن نافع المورعي إمام جامع عبدالرحمن فقيه بمكة المكرمة: لا شك أن الثقافة الشرعية والعلمية بل ومهارات الإلقاء والخطابة وشد انتباه عموم المصلين والمستمعين والحاضرين هي سلاح الخطيب الناجح، الذي يقدر نفسه ويحترم الآخرين، ذلك أن جمهور المستمعين إنما يختار الخطيب الذي يشعر أنه يستفيد منه، ولذا كان من اللازم على كل خطيب أن يقدر ذلك وأن يعطي جمهوره ما جاء من أجله، وهذا لا يتأتى إلا بأن يحافظ الخطيب على مستواه الثقافي الشرعي والعلمي بل أن يجتهد في تطوير ذاته ومهاراته، وذلك:
أولاً: بحضور حلقات العلم على أيدي العلماء الراسخين الربانيين.
ثانياً: بالقراءة الشرعية المتخصصة في الدراسات الشرعية.
ثالثاً: بالاستماع إلى الخطباء المبرزين في هذا الجانب.
رابعاً: بالتواصل مع الخطباء المشهورين في بلده.
ومما لا شك فيه أن الخطيب إذا تحصن بمثل هذه الأمور استطاع أن يضبط نفسه في خطبته، وأن تكون خطبته قصيرة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا شعر الخطيب أن حماسه قد يخرجه عن دائرة الموضوع أو يدفعه إلى التهور أثناء الخطبة فعليه إما أن يكتب خطبته كاملة ويلتزم بها، وعليه أن يعيد قراءة خطبته بينه وبين نفسه عشرات المرات ليكون حافظاً فاهماً لما فيها، أو بأن يضع رؤوس أقلام تعينه على ضبط خطبته، وأن يقوم بتسجيل خطبته وسماعها لمعرفة مواضع الخلل فيصلح ذلك الخلل أولاً بأول.
العقلي والعاطفي
أما الدكتور عثمان بن صالح العامر (خطيب جامع التركي بحي شراف في مدينة حائل) فيقول: لا يختلف اثنان حيال أهمية المنبر في الإسلام ودوره الأساس في بناء القناعات وطرح المشكلات والتأثير على الرأي العام عبر تاريخنا المديد، ولذا انبرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطابة بنفسه ولم يترك المنبر لأحد من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين مع كثرة مشاغله وتعدد مهامه وسار على نهجه الخلفاء والأمراء والولاة، ومع أن هناك من يرى عدم أهمية هذا المنبر الإعلامي اليوم، ومع أن هناك من يشكك في قدرة الخطيب في بناء القناعات وتحرك المشاعر في عالمنا المعاصر الذي يعج بوسائل التأثير وقنوات البناء خلاف ما كان عليه الحال في السابق وهناك... إلا أنني ومثلي كثير يرون غير ذلك، ولكن هذه الإيجابية التي نراها في المنبر وننتظرها من خطيب اليوم مرتبطة بالإخلاص في القول والصدق في الطرح، ومعرفته عمّا يتحدث ولمن يتحدث وكيف يتحدث ومتى يتحدث وفي أي خط يسير وإلى أين سيصل بعد توفيق الله، إذ لا يكفي أن يسمع الخطيب ما يقال أو يقرأ ما يُكتب في وسائل الإعلام أو يستل خطبة من كتاب ثم يعتلي المنبر وهو مشحون العاطفة متقد الهمة ليلقي ما عنّ له أمام المصلين بلا ترو ولا تحر ولا حكمة، لابد أن يسبر أغوار الموضوع، لابد أن يعيش الحدث بكل أبعاده ويستشعر عظم المقام وأمانة الكلمة وأهمية الدور الذي يقوم به، فهو يقف مقام سيد البشر محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ويتحدث باسم الإسلام ومن أجل هذا الدين وفي سبيل الإصلاح والتذكير والبناء.. وللوصول إلى هذه الدرجة على الخطيب القراءة الموسعة في السيرة العطرة واقتفاء خط الرسول صلى الله عليه وسلم في الجمع بين مسلكي الخطابة (العقلي) و(العاطفي)، وهذا هو المنهج القرآني الحكيم، وبه يقف الخطيب عند نقطة الاتزان ويكون بمنئ عن التهور والانفعال غير المنضبط ويستفيد هو ويفيد الناس، ويرتقي المجتمع في سلم الخير بعيداً عن التأثيرات الانفعالية والموجات الحماسية التي سرعان ما تنطفئ وخلفها ركام الرماد وفوقها سحب السواد، كما أن على الخطيب التزود من العلم الشرعي والزاد المعرفي إذ إن فاقد الشيء لا يمكن أن ينتفع الناس منه.. والسبيل الأمثل لذلك وضع برنامج زمني محدد يبدأ مع بداية الأسبوع هدفه التفكير بطرح خطبة الأسبوع القادم عبر مراحل خمس (العصف الذهني، طرح التساؤلات التي تبحث عن الإجابة، جمع المادة في الموضوع والتركيز على الأدلة، صياغة الخطبة بأسلوب متزن مبني على الدليل، مراجعتها وقرأتها بتمعن، والخطيب قبل هذا وذاك بحاجة إلى توفيق الله وعونه ولذا لا بد أن يرتبط بالله ويسأله دائماً العون والتوفيق والهداية والسداد وأن ينتفع الناس بما يقول وأن يكون ما يقوله شاهداً له لا عليه، والله المستعان.
منهجية واضحة
ويشير الشيخ حمدان بن محارب الوردي إمام وخطيب جامع المويشير بسكاكا: إن المنبر هو منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلام المتحدث به كلام الله - عز وجل - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أوضحه وبينه للناس أشد بيان، ذلك لا غبار عليه.
يبقى لدينا الواقف على هذا المنبر، والمتحدث بهذا الحديث ألا وهو الخطيب نفسه، فخطيب الجمعة عليه ينصب قبول الخطبة وشد الانتباه لها، أو التغافل عنها، وفي حياتنا المعاصرة تواجه الخطيب عدة قضايا وأمور، فمشكلات الأمة وقضاياها من جهة، والمستمعون وما يختار لهم من جهة أخرى.
فأول قضية يجب الاعتناء بها من جهة الخطيب هي الإخلاص لله عز وجل فيما يقول وفيما يدع، فلا يركز جلّ اهتمامه على رضا المستمعين ويدع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يتضح لنا أهمية منهج الخطيب ورؤيته لما يطرح في الأحداث وغيرها، وعلى الخطيب أن يوازن فيما يطرحه على المستمعين، ما هو الدور الذي يقوم به المستمع عندما يستمع للخطبة؟
فإذا كان المستمع ليس له دور في الكلام الذي سمعه من الخطيب إذن ما هي فائدة الخطبة أو الحديث الذي تحدث فيه الخطيب، يجب أن يركز الخطيب في خطبته على الدور الذي يقوم به المستمع من الالتزام بالدين أو الدعوة إلى الإسلام أو المساهمة في إصلاح المجتمع وغير ذلك.
فمنهجية الخطيب مهمة في قبول كلامه ورأيه بين الناس، فلابد أن يكون للخطيب منهجية واضحة ورؤية ثاقبة في طرح القضايا، فالخطيب الذي له منهج واضح يوفق في طرحه وقبول الناس كلامه ويوفق لاختيار الخطب المناسبة.
ومن الأمور التي ينبغي على الخطيب أن يعتني بها، تطوير مهارات الإلقاء لديه عن طريق الدورات التأهيلية لمثل هذا الغرض، ومن ذلك استخدام نبرة الصوت ورفعها وخفضها، وتجوال نظره بين المستمعين إلى غير ذلك من مهارات الإلقاء.
ومن الأمور كذلك أن يحاول الإطلاع على كل ما هو جديد في تطوير ذاته وتغييرها من الداخل (الصدق مع النفس، الصدق مع الآخرين، التأني وعدم الاستعجال في طرح القضايا الشائكة في الأمة)، فلا يكفي أن ينسق الخطيب كلامه إنما هناك شعاع خفي داخل النفس هو الذي يؤثر في الناس ألا وهو المبادئ والقيم التي يرتكز عليها الخطيب (صدقه مع نفسه، الأمانة، التعامل مع الناس جميعاً في وضوح وإخلاص وتجرد).