يُعَدُّ يوم الأربعاء الرابع من شهر شوال لعام ألف وأربعمائة وثلاثين من الهجرة النبوية الشريفة الموافق 24-سبتمبر 2009م يوماً تاريخياً مهماً، ليس لأنه يناسب اليوم الوطني فقط، بل ولأنه يسجل تحولاً نوعياً مميزاً في مجال تقديم وإنتاج وتطوير المعرفة المستمدة والمستندة على البحث العلمي الأصيل.
إن افتتاح الملك عبد الله للجامعة التي كانت حلماً يراوده على مدى ربع قرن في ثول لسوف يسجل بمداد من نور لهذا الملك العظيم الذي أمن وحلم وخطط ونفذ لهذا الصرح والمنارة الشامخة التي تجسد ترجمة حقيقية للمواطنة وكيفية تفعيلها وغرسها بين أبناء الوطن ومحبتهم له ليكون وطناً عالياً شامخاً بين الأوطان والدول.
إن إيمان الملك عبد الله بالعلم ودوره في الحياة وتطور الأمة ونجاحها قد تجلى وتنامى بشكل تجاوز كل التوقعات والأحلام، ففي زمن قياسي من عهده الزاهر الميمون تم افتتاح أكثر من خمس عشرة جامعة حكومية وحوالي عشر جامعات خاصة، ودعمت هذه الجامعات وجميع مؤسسات التعليم العالي دعماً سخياً لا حدود له بل وتزامنت مع هذه التطورات والتحولات زيادة البعثات تحت مسمى مشروع خادم الحرمين الشريفين الجبار للابتعاث الخارجي الذي تجاوز رقمياً عدده إلى ما يزيد عن سبعين ألف مبتعث في أنحاء العالم المتقدم وفي المجالات التي تخدم نهضة البلد وتقدمه.
إننا لو استقرأنا تاريخ الأمم والشعوب المختلفة عبر التاريخ لوجدنا إن معيار النجاح الحقيقي لها في تقدمها ورفعتها ونهضتها يعود إلى استثمارها في التربية والعلم والبحث العلمي، وهذه الحقيقة هي ما برزت وتجلت في أولويات سياسات وبرامج وخطابات الملك عبد الله. ولا يجب أن يفهم أن افتتاح هذه الجامعة هو البداية الفعلية لهذا التوجه بل إن إرهاصات الاهتمام والإيمان والإرادة بالاعتماد على البحث العلمي بدأت بشكل مركز منذ بضع سنوات قريبة ممثلة في دعم الجهود والتحولات البحثية للجامعات السعودية ومراكز البحث العلمي وعلى رأسها جامعة الملك سعود التي انطلقت بسرعة هائلة نحو المنافسة في القمة العلمية العالمية في مجال الإنتاج المعرفي والعلمي حتى وصلت في زمن قياسي إلى مكانة علمية مميزة ومرموقة يفخر بها كل مواطن وعربي ومسلم، وهي في اعتقادي في سبيل احتلال موقع أكثر تميزاً على خارطة الجامعات ومراكز البحث العلمي في السنوات القريبة القادمة لما منحته من قيادة إدارية مميزة وكذلك دعم مالي وسياسي جلي هي وبقية الجامعات السعودية.
وللاستنارة باستشراف مستقبل التعليم العالي والبحث العلمي في المملكة العربية السعودية أجد لزاماً طرح بعض الأسئلة البديهية التي تساعد في تحديد الرؤية ومسارها ومن أهم هذه الأسئلة:
ما هي مواصفات ومعايير التميز للبحث العلمي في الجامعات العالمية؟
ما هو المناخ التربوي والعلمي والبحثي الذي يجب أن يتوافر في أي مؤسسة بحثية فاعلة؟
أين نقف من هذه المواصفات والمعايير؟
من المعروف أن قيام المؤسسات العلمية عبر تاريخها تجعل البحث العلمي وتطوير المعرفة أولوية قصوى وهدفاً رئيساً ضمن أهدافها، بل وتصوغ أهدافها بشكل قابل للتحقق والقياس. كما أن الوسائل التي تسهم مباشرة في تحقيق هذه الأهداف تتركز على الباحثين العلماء الذين يقومون بالتنظير والتطبيق والتحقق من النظريات وتجريبها، ولا يمكن أن يتم ذلك ما لم تتوفر الإمكانات المادية والمعنوية من معامل وكتب وأبحاث ومناخ بحثي مناسب (حرية بحثية). ولم تشتهر الجامعات والمؤسسات والمعاهد المتميزة في الشرق والغرب عبر التاريخ إلا من خلال ما أنجزته وأخرجته للعلم والعالم. فبيت الحكمة في بغداد والجامعة المستنصرية وجامعة الأزهر والقيروان والزيتونة وغيرها في تاريخ الإسلام الذهبي تجلت وفرضت اسمها وعلماءها بما أعطته للإنسانية من فكر وعلم ومعرفة. والسوربون وأكسفورد وكمبريدج وهارفارد ومعهد ما ساشوستس وكاليفورنيا للعلوم والتكنولوجيا وستانفورد وييل وبيركلي ومنيسوتا وشينغاهاي وسنغافورة وطوكيو وغيرها قد حفرت اسمها وسمعتها عبر التاريخ وفي الأوساط العلمية والعالمية لما قدمته للبشرية من علم وعلماء أبرزهم الحائزون على جوائز نوبل وغيرها بل والاكتشافات والاختراعات كانت ولا تزال علامة فارقة ومميزة لها.
ويقيني أن خادم الحرمين قد استلهم هذه المعطيات التاريخية والحضارية لدور العلم والبحث العلمي في تنوير وتقدم الأمة متزامناً مع حبه لأمته ووطنه، فعاشت هذه الأحلام في ذهنه متوقدة إلى أن أصبح الحلم واقعاً.
وإذا كنا نعيش إلى عهد قريب مثلنا مثل سائر الدول النامية في هاجس وتحدي البقاء وتوفير الأساسيات من التعليم والجامعات لأبناء البلد، فقد جاءت الساعة والوقت التي استغلت القيادة الرشيدة المال مع توافر الإرادة لبناء الإنسان وصنع التاريخ كما فعل الآخرون ويفعلون من الدول المتقدمة في صنع مستقبلهم بالعلم والبحث العلمي. وقد بدأت إرهاصات هذا التحول والتغير بالدعم غير المحدود للبحث العلمي والجامعات ممثلاً بافتتاح الجامعات والتي أشرت إليها سابقاً والتركيز على التخصصات والمجالات التي يحتاجها البلد.
وفي الختام فإني أرى أن انطلاق جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا ما هي إلا البداية الصحيحة والمؤشر النوعي الدقيق في التحول للعالم الأول حيث قد توفرت الإرادة والإدارة، وعل بقية الجامعات السعودية وخاصة العريقة منها في أخذ زمام المبادرة واستغلال الدعم والإمكانات والمناخ السياسي وتوفر القدوة البحثية الماثلة للعيان لتحقيق طموحات الأمة والتي طرحها خادم الحرمين الشريفين في الجامعة النموذج. وسيكون المحك للانتقال للعالم الأول واستثمار هذا المناخ والوقت وإنتاج المعرفة والإسهام في حل المشكلات الصحية والاجتماعية والزراعية والاقتصادية وتوفير العلماء السعوديين الذين يعتمد عليهم الوطن والأمة بل ويستطيعون إدارة هذه المنارات البحثية ولسوف يكون مستقبلاً مشرقاً بإذن الله. فالكرة أصبحت الآن في يد إدارات الجامعات وهذا هو التحدي الحقيقي بالدرجة الأولي. وبالله التوفيق.
للتواصل والتعليق: E-mail: ZOZMSH@HOTMAIL.COM