قال الله تعالى في كتابه الكريم {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، إنّ هذا المبدأ العظيم يعلي شأن مكانة العلم ويحث على اكتساب العلم والمعرفة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس أنفعهم للناس) لذلك فإنّ أعظم الأعمال هو ما دام نفعه للأجيال القادمة، ومن هنا كان الوقف عنصراً جوهرياً في بناء الحضارة الإسلامية.
ورغبة مني في إحياء ونشر فضيلة العلم العظيمة التي ميّزت العالمين العربي والإسلامي في العصور الأولى، فقد رأيت أن أؤسس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية باعتبارها بيتاً للحكمة ومنارة للسلام والأمل والوفاق تعمل لخدمة أبناء المملكة ولنفع جميع شعوب العالم.. عملاً بأحكام ديننا الحنيف، حيث يبين لنا القرآن الكريم أنّ الله تعالى خلق بني آدم من أجل أن يتعارفوا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}
إنني أرغب في أن تصبح هذه الجامعة الجديدة واحدة من مؤسسات العالم الكبرى للبحوث، أن تعلم أجيال المستقبل من العلماء والمهندسين والفنيين وتدريبهم وأن تعزز المشاركة والتعاون مع غيرها من جامعات البحوث الكبرى ومؤسسات القطاع الخاص على أساس الجدارة والتميز).
هذه هي الرسالة التي استهلّ بها خادم الحرمين الشريفين الكتيّب التعريفي الذي وزّع على المدعوين لحفل افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) في منطقة ثول الواقعة على بعد 85 كيلو متراً من جدة، وذلك في 4 شوال 1430هـ المواقف 23 سبتمبر 2009م.
وفي هذه الرسالة يلخّص الملك عبدالله توجُّهاته في مجال التعليم العالي والتي يحاول إرساءها لتقود هذه الأمّة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ علاقتنا بالعالم وهي: .. تزامن العلم مع الإيمان.. لا تضاد بين المحافظة على القيم واكتساب المعرفة.. النفع للبشرية عامّة فالناس سواسية كما يقرّر العزيز الحكيم، والاختيار للدخول لهذه المؤسسة سواء من طلبة أو منسوبين، مبني على أساس الجدارة والتميز ولا شيء غير ذلك.
وتخيّل لو تمكّنت هذه الجامعة الفتية فعلاً من تثبيت هذه المبادئ لتكون نبراساً تسير الجامعات السعودية على هديه، فكيف يمكن أن يكون الحال في ظل ما تعيشه هذه الجامعات حالياً من معايير تبني عليه سياساتها في القبول والتوظيف والتي يغلب على الأقل في خمسين بالمائة منها الضرورة تأكيد سياسات القبول لشرط المواطنة لا الجدارة والتميز، وتتواجد تخصصاتها لضرورة التوازنات الفكرية والأيدلوجية، وليس لخدمة العلم أو سوق العمل، وتسيطر على أبحاثها ورسائل طلابها وموادها تاريخ طويل متشابك من البيروقراطية والصراع بين التيارات لا علاقة له باكتساب المعرفة أو تقدم العلم لخدمة البشرية؟؟
بدأ الحفل الذي كنت أحد مدعويه في الخيمة الهائلة التي امتدت لمسافة 2 كيلو متر مربع على امتداد شاطئ البحر الأحمر، بحيث اعتبرت أكبر خيمة في العالم وأكثرها مقاومة للحرائق وكان على طاقم شركة أرامكو المنظم بالتعاون مع طاقم الجامعة (كاوست)، العمل لتنظيم وصول ونقل وإدخال وتجليس وتأكيل أكثر من 2800 مدعو في نفس اللحظة!! هذا عدا عن استقبال وتنظيم وحماية كل هذا العدد من الملوك والرؤساء وأصحاب الفخامة والأمراء والسفراء ممن حضروا حفل الافتتاح!!
حفل افتتاح الجامعة كان يرسم ملامح لحظة تاريخية في حياة التعليم العالي في السعودية، فالرؤية للتعليم كما بدت في العبارات التي تتابعت على الشاشات الضخمة، أو انعكست بإصرار في كلمة البروفيسور تشون فونج شيه رئيس الجامعة، وركّزت في أسسها على تهيئة بيئة مواتية لتعزيز الاكتشافات العلمية وخدمة مجالات حيوية تحتاجها المملكة وترتبط باقتصادها، لتحويل المجتمع المحيط بها إلى مجتمع معرفة وبحث واكتشاف يدفع بالبحث العلمي، ليس فقط على نطاق السعودية، بل العالم أجمع.
النساء من حولي حيث كنت أجلس، كنّ يرفعن أيديهن بالدعاء والتصفيق كلّ ما ظهرت صورة الملك على الشاشة، كما حظي الأمير خالد الفيصل بما يستحقه من إشادة وترحيب لحظة دخوله للسلام على الملك.
حضور المرأة السعودية كان طاغياً ومفرحاً، حتى ظننت للحظة أنني ربما أخطأت العنوان، وأنني في جامعة الشيخ زايد في دبي أو جامعة العين، فالمرأة بعباءتها وحجابها الكامل جنباً إلى جنب مع شقيقها الرجل، منظمة وراعية ومقدمة لفقرات الحفل. وكان الأمر لم يكن كافياً على هذه الجرعة الجميلة، إذ وقفت المرأة على المسرح بكامل حجابها (وللمرة الأولى في تاريخ الجامعات السعودية) نداً لشقيقها الرجل تقدم فقرات القصائد والكلمات بحضورنا جميعاً رجالاً ونساءً وتعرف بدورها في داخل الجامعة سواء كانت من طاقم البناء كمهندسات معماريات أو هندسة داخلية أو كنّ طالبات في برامج الجامعة المختلفة المطروحة للدراسات العليا.
النفط وشركة أرامكو السعودية كانوا الأكثر حضوراً من خلال وزير النفط معالي المهندس علي النعيمي، ورئيس شركة أرامكو الدكتور الفالح ونائبه نظمي النصر، الذين استحقوا بجدارة منحهم أوسمة الملك عبدالعزيز التي سلّمهم إيّاها خادم الحرمين الشريفين، تقديراً منه للمعجزة التي تم إنجازها تماماً في ألف يوم التزاماً بالتاريخ الذي حدد عند وضع حجر الأساس.
كلنا نتمنى اليوم أن تكون هذه الجامعة قادرة على نشر القيم الأكاديمية التي تعزّز مفاهيم العلم والمعرفة، وتؤكد على أولوية الاحتياجات التنموية والعلمية للمملكة وللعالم في ما ترعاه أو تطرحه من برامج وبحوث، وأن تكون وبحق، وكما أراد لها راعيها، وسيلة لتعزيز مفاهيم الفكر العلمي وتأكيد العلاقة الارتباطية ما بين القيم الدينية والثقافية التي يدين بها أي مجتمع ومفاهيم العلم والمعرفة، بما يخدم بقاء هذا المجتمع ويعزّز مشاركته في إحداث التحولات في العالم، ليس فقط بنفطه بل بعقول أبنائه.
* * * *
ملاحظة: أعتذر للقرّاء الكرام في غموض بعض النقاط المعروضة في مقالة الأسبوع الماضي، حيث قامت الجريدة بحذف نصف المقالة دون العودة للكاتبة.