أحسست بفزع يشبه فزع العصافير وهي تغادر أعشاشها عندما يداهمها هدير المطر النازل، لم يعد لروحي توهج، وللحريق في نفسي اشتعال، كنت حينها عائداً للتو من سهرة راقصة في أحد كازينوهات تلك المدينة في أحد البلدان البعيدة
التي جئتها، لم أكن أود المجيء هذه المرة لكنني جئت، كان مساءً بارداً حد القسوة، تغيَّر معه لون وجهي حتى الشحوب، دلفت إلى غرفتي، احتسيت شاياً حاراً وقطعة خبز وشيئاً من الجبن السائل، حاولت أن أنام لكن روحي لم تستطع أن تهجع، حاولت ترويضها، لكن إرادتي انكسرت، وخبت في روحي نور كل المواقد المضيئة، ساعتها لُذت بصمت مخنوق، فتحت نافذة غرفتي، الشوارع صارت موحشة ومؤلمة ولا أثر لحركة السير، سوى صوت الرياح العاتية المشبعة بالصفير وبالبرد، أحسست بأن روحي تتسربل بالأوجاع، وتغيب عنها البشاشة، وتتلاشى عن شفاهي أنقى الكلمات وأعذب المفردات، وبت كنيزك جريح، وأصبحت يدي كيدي فاتنة افتقدت للحناء ورائحة النعناع، وأصبحت تخرج من نوافذي كل الحمائم البيضاء، ليتراءى بعدها ظلي غارقاً في الظلام، وليصبح الليل عندي كهلاً، ثقيل الخطوات، يهش على نجماتي الشاردة بعصا غليظة، للريح عندي أنياب، لها صفير تصم حواسي الخمس، والآلام ما برحت تراودني دائماً وتشق صدري بإبر الصرخات المكبوتة، بينما أنا كذلك بزغت حينها الشمس وبدأت السيارات والناس يذرعون شوارع المدينة بصخب، نزلت إلى سوق المدينة وأنا ما زلت في حزني وألمي، السماء بدأت تمطر مطراً ثقيلاً، دلفت إلى المقهى الذي لُذت فيه خوفاً من أن يبللني المطر، وأنا أراقب شوارع المدينة المكتظة بصخب المارة، وضجيج السيارات، وصراخ الباعة الجوالين، حينها تذكرت وجوهاً كثيرة، أولها وجه أبي الذي أحبه كثيراً، والذي طلب مني كثيراً وبحنو أن أكون ناجحاً بامتياز، وأن تكون لي بصمة وأثر في الحياة، مسدياً لي النصائح العظيمة، وموضحاً لي الشواهد الكثيرة، لكنني حينها آثرت حياة اللهو وتماديت في ذلك، ورحت أهيج في بحر السفر، مرتحلاً ما بين منافذ البلدان، سفر يتبعه سفر، ولهو يتبعه لهو، دون أدنى طموح أو تطلع، سوى طموح اللذة والتشرد والتسكع على أرصفة المدن البعيدة، واليوم ها أنذا أراقب جرحي، واتساع ألمي، وثقب نفسي، في داخلي جبال تتهاوى، ولهفة ولوعة وحزن وانكسار، وسكاكين وأسواط عذاب وعويل وذبول، قررت بعدها أن أتأمل وضعي بعمق وأن أضع لي بُعداً إستراتيجياً يحميني من شر نفسي وطيشي، هذه اللواعج والهموم التي اجتاحتني والتي رسمت نفسها في كل خلية من خلايا روحي منحتني القدرة على أن أقف على قدمي بلا خوف وبلا وجل وبلا تردد لكي أوظف مواهبي وقدراتي توظيفاً يهذب نفسي باتجاه الأفق المضيء، حينها مثلما تذكرت وجه أبي البهي، تذكرت وطني المشع كالأصداف التي تمتد بسطوح ناعمة يكسوها بريق حاد، سطوع تنسرح وتتماوج بخطوط وظلال حادة، هو الوطن يتوغل في الجسد حينما تتعلق فينا الشوائب الثقيلة، وحين نصبح متعبين، وحين نشعر بالعطش، تحركت بعدها إلى الشارع تحت المطر الثقيل لأغتسل، وأطرد كل آثامي وذنوبي ونزواتي وطيشي وقلقي وأن أنأى بعيداً عن كل الأذرع الملتفة حول دائرتي بتشابك مرعب لأعلن بعدها الرحيل إلى موطني لأبدأ حياة التحدي، بعدما اكتملت في داخلي عناصر الثورة فانفجرت بدمائها الراعدة الزاحفة بعنف لتحرك أعماق نفسي التي يستشري فيها الغليان منبثقاً من معاقلها الراكضة بجنون صوب التحدي والإثبات.
إشارة
اسمي (عطية).. أنا الآن أعمل دكتوراً محاضراً في إحدى جامعاتنا العربية العريقة أخدم أمتي ووطني، بعدما صنعت مني العزيمة وتحدي النفس رجلاً آخر منتجاً وفعَّالاً.
ramadan.alanazi@aliaf.com