ما إن انتهي الشهر الفضيل، وحلَّ عيدُ الفطر، حتى بدأ جلدُ الذات يتردد في صحافتنا الغراء. فالبكائيات تلقاك في كل زاوية، على العيد الذي أتى وفلسطين أسيرة، والقدس تبكي وما من مجيب، وفريضة (الجهاد) مُعطلة، وبني يعرب متفرقون، والغرب يَحيك المؤامرات بنا ونحن عنه غافلون، وأمة الإسلام تهيم على وجهها في كل واد، وفي الختام، أو قبيل أن يختتم الكاتب مقاله بقليل، لا بد من تذكير القراء ببيت المتنبي الشهير: (عيدٌ بأية حال عدت يا عيد)!
|
بودي لو أن أحداً أحصى كم تردد بيت المتنبي هذا في المقالات والزوايا التي كتبت قبيل وأثناء عيد الفطر لهذا العام في صحفنا وفي صحف بني يعرب الأخرى؛ سيجد بلا شك أنه بيت القصيد فعلاً وليس مجازاً، هذا بالطبع غير خطب الجمعة، التي لا أشك أنَّه أكثر بيت يُردده الخطباء العرب المفوهون وغير المفوهين أيضا في خطب الجمعة بُعيد كل عيد فطرٍ أو أضحى، ومثل هذه العادة في رأيي تنمُّ عن ثابت متأصل في الذهنية العربية، مؤداه أن الزمن دائماً وأبداً هو عبارة عن منحنى يتجه بصورة مستمرة إلى القاع؛ وبالتالي فالماضي الذي لن يعود هو الكنز المفقود في هذه الحياة. مثل هذه البكائيات أصبحت ممارستها بين الحين والآخر، بمناسبة أو من دون مناسبة، إحدى أهم صفات الشخصية العربية المعاصرة. فالعيد بالنسبة لكل شعوب الأرض يُعتبر مناسبة للفرح والسرور والابتهاج، أما لدى بني يعرب فهو فرصة لا بد من اقتناصها للبكاء والعويل وإبداء الضيق والتحسر، وربما اللطم، على أوضاعنا المزرية؛ فيتحول العيد إلى (عيد بأية حال عدت يا عيد)!
|
ومثل هذه الممارسة هي امتداد للبكاء على الأطلال الذي اتصفت به الشخصية العربية الصحراوية، وامتلأ به الأدب الجاهلي؛ فالتحسّر على الماضي الجميل هو كموقف ثقافي لا يختلف في رأيي عن قول امرئ القيس:
|
عُوجَا على الطّلَلِ المُحيلِ لَعَلَّنَا |
نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابنُ حِذَامِ |
فامرؤ القيس يذهب إلى الطلل، أو هو (يعوده)، عن قصد ليبكي، ويتحسر، أو هو يتلذذ بالبكاء على الزمن الجميل الذي مضى!
|
والماضي في العقلية العربية دائماً جميل، وجذاب، وليته (يعود)؛ حتى وإن كنا نسكن فيه إما في بيت طيني خَرِب تُشاركنا سكناه كل أنواع الزواحف والحشرات، أو بيتٍ من الشَّعَر تلعب فيه الرياح في صحراء يكتنفها الظمأ والجوع والخوف من كل جانب، ونتنقل على الحمير والبعارين، وتعيث فينا الأمراض والأوبئة، ويلعب في أمننا قطاع الطرق بمجرد أن يبتعد الإنسان عن حيه أو قريته، وبالكاد يجد الإنسان ما يسد رمقه؛ ورغم كل ذلك سنستمر نردد (عيدٌ بأية حال عدت يا عيد)؛ لأننا لو لم نبك على ماضينا (الجميل)، ونتذمر من حاضرنا (السيئ)، فقد تخلينا عن أهم ثوابت ثقافتنا، وأذعنا للتغير ومؤامرات المتغيرين، وربما انزلقنا إلى طامة (التغريب) أعاذنا الله وإياكم من التغريب والتغريبيين ومؤامراتهم!
|
|
|