«إن مبرر احترام الأطفال لآبائهم لا يعد أقوى من ذلك الخاص باحترام الوالدين لأطفالهم فيما عدا أنه عندما يكون الأطفال صغاراً يكون الآباء أقوى من الأطفال» يبدو أن الدكتور عبدالله الغذامي قد تأثر من المقولة السابقة للفيلسوف والرياضي والكاتب الإنجليزي
بيرتراند راسل الذي يعد من أعظم الفلاسفة الذين تطرقوا لنظريات فلسفية غير مسبوقة والذي حصل على جائزة نوبل عام 1950م بالإضافة إلى نوط الاستحقاق ذو القيمة الكبيرة والذي قلده إياه الملك جورج السادس عام 1949م وجائزة سوننج من جامعة كوبنهاجن عام 1960م، كما كان ناشطاً بارزاً ضد الحرب وضد الإمبريالية وشجع التجارة الحرة بين الشعوب، وتميز بكونه ناقداً ساخراً بالإضافة إلى كونه عالم اجتماعي دقيق، وقد كتب ما يزيد عن المائة كتاب والكثير من المقالات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والدين والأخلاق والجنس، ويعتبر كتابة ألف باء النسبية من أروع ما كتب وقد مات عن عمر يناهز المائة عام في سنة 1970م. أقول يبدو أن الدكتور الغذامي قد تأثر بتلك المقولة في قراءته لواقع الزمن بين الليبرالية والاتجاه الإسلامي وقرر أن الأخير أقوى برغم احترام الأول بعد أن استشهد كثيراً بقائلها أثناء محاضرته التي أثارت وما تزال الكثير من الشجن الذي لا يخلو من الجدل واللغط.
بيد أن الدكتور الغذامي أراد لنفسه أن يعلن للناس توجهاً جديداً لن أزعم أنه بغية إعادة بريق فقده عبر سنوات غابت فيها معالم الحداثة التي تبناها بحكم تقادم العهد عليها وعدم أهليتها للوجود والدفاع والاستماتة دونها، بل ربما لإحساسه بعزلة الفكر الذي ينتهجه وتناقض بقايا آثار وخز الأفكار الحداثية في مقابل تغييب المشروع والخطاب الذي أصبح مزيفاً بفعل قدمه وبزوغ نجم جديد قديم لم يكن للدكتور الغذامي فيه دور ولو هامشي وباعترافه شخصياً حينما قال إنه ليس ليبرالياً ولم يكن يوماًً كذلك ولن يكون مستقبلاً.
تأملت كثيراً لقاء الدكتور الغذامي في إحدى الصحف المحلية بعد غياب طويل عن الساحة وانتابتني هواجس الخوف من بداية النهاية لرجل كنت أتمتع بحديثه ومنافحته لمبادئ الخطاب الذي يحمله، تنبهت لأمر تصورته أكثر خطورة برغم استبعادي له وهو ترجل الدكتور الغذامي عن قيادة ما بدأه ومحاولته الجلية والواضحة للتقرب من الإسلاميين ومد يده لهم بعد أن اعتبروه مشروعاً تغريبياً يحمل الكثير من الشبهات التي تتطلب محاربته والابتعاد عنه في كل مكان وزمان، حتى أن الدكتور الغذامي عرض أن يقوم بحرق كتبه مهراً لمصالحتهم ورضاهم عليه ودليلاً لا يقبل شك في صدق نيته بالتقرب لهم وانهزامه وتنازله المذل عن أفكاره ورؤاه، وهو ما حاول أن يعيد صياغته في محاضرته الأخيرة بجامعة الملك سعود حينما أشار إلى أن ذلك لا يعدوا أن يكون سوى اجتزاء من سياق بعد أن سأله المحاور عن استعداده للتنازل عن كتبه وحرقها. وكأن الدكتور بذلك يريد أن يقول لنا أننا لا نتذكر وأن حديثه ليس مدوناً ويمكن الرجوع إليه وقتما نشاء، ويريد أيضاً أن يقول لنا أن كتبه التي سيقدمها مهراً للإسلاميين بغية الحصول على رضاهم هي ملكه وأنه ما يزال يتحكم في ذلك الإرث كما تفعل المطربات أو الممثلات اللاتي يتحجبن ويبدأن بجمع ألبوماتهن من الأسواق حتى لا يراهن أحد بعد أن هداهن الله.
انهال الدكتور عبدالله الغذامي في محاضرته تلك على الليبراليين بالتهم بشكل عشوائي ولا أشك مطلقاً أن الدكتور لم يكن يتوقع ردود فعل على ما سيقوله، فهو قاصد لذلك كما أشرت في بداية مقالي هذا وها هو يحظى به ويستمتع بنتائجه. الدكتور الغذامي وصف الليبراليين بأعداء الدين وهم يحاربون كل ما هو ديني بل ذهب لأبعد من ذلك حينما وصفهم بأنهم يحاربون الرأي الآخر بينما يزعمون أنهم من دعاة حرية الرأي وأنه لا وجود لليبرالية حقيقية بالمملكة سوى بعض الكتاب الذين يعتقدون أنهم ليبراليون، وعرج على أمر أكثر خطورة حينما استعرض كيف أتت الليبرالية إلى المملكة وأنه كان في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ليبراليون كثر لم يعلنوا ليبراليتهم بينما وصفتهم الصحف الأجنبية الغربية بأنهم لليبراليين، ثم قارنها بالليبرالية التي غزت العراق وتلك التي قادها الاتحاد السوفييتي في حربه على أفغانستان، ثم عدد أنواع الليبرالية وجزم بعدم وجود الأنواع الأربعة وتحدى أن يكون هناك ليبرالي فلسفي واحد في المملكة، ثم قاد هجوماً من نوع آخر على كيف يتصرف الليبراليون حينما تسن أنظمة تتوافق وأهوائهم وكيف هي ردود أفعالهم حين يتم منع أحد أهم مبادئ الليبرالية كالتصويت مثلاً في المجالس الأدبية الأمر الذي دعاه لتشبيه الليبرالية بالمملكة بالإمبريالية وانطلق منها لأمثلة تحدث في فرنسا وفي بريطانيا، فضلاً عن ذكره لكتابات الليبراليين السعوديين ووصفه إياها بردود الأفعال وأنها تتمحور في مجملها في نقد الهيئة ونقد المناهج والخدمات العامة التي يستطيع أي كاتب أن يدلو بدلوه فيها دون أن يطلق على نفسه اسم ليبرالي، ثم تحدى أن يأتي أحدهم ويعرف له الليبرالية الحقيقية لأنه لم يجد حتى اللحظة من هو قادر على القيام بذلك.
أعتقد جازماً أن الدكتور الغذامي حاول تهميش عدد من الأمور ولا أعرف حقيقةً سبباً لذلك سوى رغبته في تحقيق ما ذهب إليه من خلال إعلانه العداء لليبرالية ومنها أنه همش دور العنصر الأجنبي الذي عمل على أراضي المملكة في بداية عهدنا بالنفط، وهمش أيضاً دور المدرس العربي الذي قدم إلينا من بلاده التي استعمرتها دول كانت تؤمن بالليبرالية ونقلتها لأبناء تلك الدول المستعمرة، ونسي أو تناسى قاصداً ترجمات الكتب الكثيرة التي تمت في تلك الحقبة الزمنية بخلاف ابتعاث العديد من التكنوقراط الذين عادوا ليتبوؤا مناصب قيادية في البلاد ويقودون حملات كثيرة بأفكارهم غير المعلنة لليبرالية.
تناسى الدكتور الغذامي أن الليبرالية السعودية ليست مقيدة بالليبرالية العالمية وأن من أهم مبادئ الليبرالية هو خضوعها للمجتمع الذي تعيش فيه وأن هدفها الإصلاح لا السلطة، تناسى الدكتور أن الليبرالية محكومة بأطر سياسية في البلاد التي تتواجد فيها، وكونها تخضع بالتالي للسلطان إنما ذلك لا يمنعها من المطالبة بالإصلاح المنشود، تناسى الدكتور الغذامي أن هموم الليبرالي السعودي لا تتمحور كما ذكر في نقد الهيئة والمناهج التعليمية، إنما لكثير من القضايا التي قد تقف حائلاً بين الإصلاح والتقدم المنشود وبين إرث متزمت متراكم متكدس من العادات والتقاليد البالية، وإن انتقاد جهة ما لا يكون لذاتها بل لقيمتها ولمخرجاتها ويكفيه تقليب صحيفة يومية ليرى عدد المقالات التي يكتبها كثير من الليبراليين منتقدين فيها أكثر مما ذكره الدكتور الغذامي.
الدكتور الغذامي حين تحدى أن يكون هناك تعريف لليبرالية، تجاهل أن صغار جيل اليوم قادرون على تعريف الليبرالية، تجاهل أن جيل اليوم قادر على التفريق بينها كفلسفة حياة، وكدين جديد أو كمذهب معادٍ للدين حينما قام بمحاولة لمزها بأنها معادية للدين وبالتالي التأثير على الحضور بل وكسب ربما رضاهم عندما قال صراحةً إنه يعرف الكثير من الليبراليين الذين يصلون وهم أشخاص فاضلين وكأن الليبرالية تدعو لترك الصلاة والابتعاد عن الفضيلة.
إذا أردنا أن نسيء لليبرالية فيمكننا بسهولة مقارنتها بالإمبريالية أو الماركسية التي تعلي حرية العقل على المعتقد أو غيرها، لكننا يا دكتور عبدالله نأخذ الليبرالية على أصلها ونخضعها لمجتمعنا بمعتقده ولا ندفع بأنفسنا خلفها بغية تحقيق النجومية من خلال تمثيل دور الأب الروح أو الرمز لتلك الفلسفة، فهي موجودة ولا تحتاج لرموز كالحداثة التي بادت وباد معها أتباعها وأفل نجم رموزها.
إلى لقاء قادم إن كتب الله