حينما تريد الحديث عن العمالقة الكبار لا شك سينعقد لسانك ويصمت صوت قلمك وتعجز كلماتك، وتتبعثر حروفك بين السطور، ومهما حاولت أن تستجمع قواك إلا وتجد نفسك قد تقطعت بك السبل وتاهت بك الدروب، ذلك كله لا لشيء! إلا لأنك تريد أن تتحدث عن الكبار بكل تفاصيلهم وأقصد فقط بالكبار هم الكبار بالتمسك بالدين، ومكارم الأخلاق!!.
أولئك الكبار لهم محبون لا يحصيهم إلا الذي زرع محبتهم في القلوب وهو الله جلَّ وعلا القائل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} وقد قال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَحَبَّ اللَّه عَبْدًا نَادَى جِبْرِيل إِنِّي قَدْ أَحْبَبْت فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُنَادِي فِي السَّمَاء ثُمَّ تَنْزِل لَهُ الْمَحَبَّة فِي أَهْل الْأَرْض فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَن وُدًّا}...
في هذه الأسطر حديثي عن عملاق وكبير من أولئك الأفذاذ قد فجعنا بخبر وفاته وهو رجل لا أظن أن مثلي يستطيع أن يكتب كل مافي خاطره وخواطر أقاربه ومحبيه!!، كيف لا؟ وقد أجمع على محبته الجميع.. الصغير، والكبير، الرجال، والنساء، فقد عاش - رحمه الله تعالى - كغيره ممن عاشوا في بداية حياتهم، في حال فقر ومسغبة، ومع ذلك لم يثنه ذلك ولم يثبطه عن الصبر والكفاح والجد والعمل في سبيل الحصول على لقمة عيش تكفيه عن سؤال الناس والحاجة إليهم.. وفعلاً عاش ومات وهو في بركة وفضل من الله تعالى، ومن أدركه منذ صغره وزمن شبابه وحال كبره عرفه بتلك الصفات الذي ذكرتها آنفاً..
وتسير بفقيدنا الأيام لينتقل مع أهله من جلاجل إلى العبّ - منطقة في الحمادة بالوشم - ليستقر به المقام هناك ويحقق الله تعالى له ولأهله ما يتمناه فالتأم شمله في رغد عيش وبركة بفضل الله تعالى حتى أصبحت داره منارة بارزة مع أخيه عبدالله وذريتهم بارك الله فيهم جميعاً، فترقص قلوبهم طربا بالضيف وشعارهم قول الشاعر:
ألاطِفُ ضيفي قبلَ إنزالِ رحلهِ
ويخصبُ عندي والمكانُ جديبُ
وما الخصبُ للأضيافِ أنْ تكثرَ القِرى
لكنما وجهُ الكريمِ خصيبُ
كانت تلك هي حالهم، الكرم ديدنهم رغم الفقر واللأوى، وها هي حالهم وقد عرفوا نعمة الله عليهم، وما أسعدهم بذلك الضيف الذي يأتيهم، بل إن ضيفهم في الحقيقة هو صاحب المنزل وهذا ما يذكرني بقول الشاعر أيضا:
يا ضيفَنَا لو زُرْتَنَا لوجدتَنَا
نحنُ الضيوفُ وأنتَ ربُ المنزلِ
فقيدنا - رحمه الله - لا يهنأ بطعام أو شراب إلا وبين يديه ضيف يأنس به وينشرح به صدره..
كان رحمه الله تعالى إن صح التعبير عموداً من أعمدة المسجد، وبينه وبين المسجد قصة حب خالدة خلوداً سرمدياً - نحسبه والله حسيبه - ممن عناهم رسولنا صلى الله عليه وسلم بقوله (سبعة يظلهم الله في ظله.. وذكر منهم: ورجل معلق قلبه بالمساجد..) ومن شواهد قصة حبه للمسجد أنه إذا فقده أهله لا يبحثون عنه إلا في المسجد ليجدونه هانئ النفس قرير العين، وتلك عجيبة من عجائبه - رحمه الله -!!.
ومن مناقبه أن القرآن الكريم رفقيه الدائم فقد كان - رحمه الله - يختم القرآن الكريم كل ثلاثة أيام.
سأختصر الحديث عن حياته لأن مثلي لن يستطيع الإحاطة بتفاصيل سمات ذلك الرجل الشامخ السامي!!.
أصيب - رحمه الله - في آخر سنوات حياته بمرض في القلب بدأ التعب والإنهاك يأخذ منه عافيته، فوصلت مرحلة المرض معه مرحلة حرجة حتى إنه لا يستطيع المشي ولو خطوات ومع ذلك فلم يترك المسجد لنافلة فضلاً عن فريضة، فقد كان يأتي على كرسي كهربائي يقوده هو بنفسه مابين داخل البيت ومجلس الضيوف والمسجد.. وقد ذلل له ذريته كل الصعاب ليصل لمبتغاه بسهولة وخصوصاً المسجد إنها هِمم الكبار ولا غير!! ولا غروَ!!..
يوم الاثنين 20-1-1432هـ لم يكن يوماً عادياً عليه.. حتى في نافلته كما أخبرنا مُجالِسه في المسجد بأنه صلى صلاة الضحى كعادته ورفع يديه بالدعاء ولكن!! لأول مرة يطيل الدعاء على غير عادته التي يراه عليها.. رجع إلى صديقه الحميم - القرآن الكريم - وقرأ حزبه وكان قد وقف على سورة التوبة.. صلى الظهر.. خرج أخوه من المسجد وبنوه.. تبعهم وهو يشكو أكثر من ذي قبل.. جلس مع أخيه عبدالله وابنُه عبدالرحمن.. قرأ عليه أخوه آيات من القرآن الكريم ونفث عليه.. ابنه عبدالرحمن يرتب مع أخيه خالد وينسق لنقله للمستشفى.. وفجأة!!
يقوم ويركب كرسيه المتحرك ليذهب يجدد الوضوء.. ويخرج بعدها متطهر وينطق بالشهادتين بصوت مسموع.. ويسير بكرسيه إلى أين؟؟ إلى اللحظات الأخيرة في الحياة.. خطوات بسيطة وأمام أخيه عبدالله وابنه عبدالرحمن يتوقف عن السير.. بل يتوقف النفَس.. لحظات صعبة.. لحظات حرجة مؤلمة..نعم فاضت روحه على كرسيه.. أبي؟ أبي؟ أبي؟ لا يجيب!! حضر خالد، حضر الجميع.. ولكن!! غادرت الروح الطاهرة للرحيم الكريم، وصلوا إلى المستشفى.. لحظات.. أحسن الله عزاء الجميع في الفقيد..كلمات صعبة تصل إلى المسامع.. ولكنها تقابل بإيمان بالله تعالى وقدره، تقابل بسكينة وصبر واحتساب.. لحظات وينتشر الخبر كالصاعقة المدوية.. توفي الشيخ محمد بن جلعود بن فوزان الجلعود وبدأت الاتصالات ورسائل الجوال تنهال هنا وهناك في الداخل والخارج.. ليصل الخبر كلمح البرق!!
لن أنساك ما حييت، يا أيها الشامخ السامق، لن أنساك يا صخر زمانك.. وإني لأخال قول خنساؤهم أجدر بك من غيرك، حين قالت: كأنهُ علمٌ في رأسهِ نارُ.
وصدق بشار إذ قال:
ما بالُ عينكَ دمعها مسكوبُ
حَرُبَتْ فأنتَ بنومها محروبُ
وكذاكَ مَنْ صحبَ الحوادثَ لم يزلْ
تأتي عليهِ سلامةٌ ونُكوبُ
فعليكَ يا شيخُ السلامُ فإننا
باكوكَ ما هبتْ صبا وجنوبُ
وضَلَلْتُ أندبُ ذكرَ آل محمدٍ
عُمُرا وعزَّ هنالكَ المطلوبُ
رحل الشيخ محمد الجلعود عن هذه الدار بعد عمر تعاقبت عليه الأيام بكدرها، وصفائها، وحلوها، ومرها، وسرائها، وضرائها.. ليرحل ويترك خلفه ذكراً مباركاً طيباً، وحياة حافلة بالنوادر والذكريات التي سطرها ويسطرها عنه الرواة على صفحات الكرامة والعز والفخر، رحل عن هذه الحياة تاركاً خلفه بيتاً رفيع عماده، خصبة أرضه، مفتوح بابه، كثير رماده، مجتمع شمله، وارد ضيفه..
وفي ظهر الثلاثاء 21-1-1432هـ وفي جامع المهنا بمحافظة شقراء توافد المحبون وتزاحم المتلهفون لوداع حزين..تقدم الإمام ليصلي على الفقيد، تضايقت العبرات، فسالت الدمعات، وتقطعت القلوب على الفراق في هذه الدنيا، والكل يجهش بالبكاء لايتمالك نفسه، ويخصه بدعوة صادقة خالصة لله تعالى..!!
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد
وأصبح في شغل عن السَفر السِفر
يسير الناس بسكينة حاملين الفقيد في خطوات ثابتة متوازنة، لينزلوه في قبره بدعوات متتالية بأن يثبته الله تعالى بالقول الثابت، ويجعله روضة من رياض الجنة.. ودّعوه.. وعانق بعضهم بعضاً بحرارة وبكاء، كل واحد يعزي الآخر بفراقه.. ولك أن تتخيل تلك الجموع التي توافدت على المنزل للعزاء من كل مكان، ولم ينقطع العزاء على مدار أيام، واتصالات لم تنقطع تواسي وتدعو..رحم الله فقيدنا فكم كان محبوباً عند الجميع... فقيداً عليهم كلهم، وهكذا هم الكبار ويصدق في فقيدنا قول أبي الحسن الأنباري:
علوٌ في الحياةِ وفي المماتِ
لحقٌ أنتَ إحدى المعجزاتِ
فقد عاش في علو وسمو ومات كذلك شامخا ساميا - رحمه الله -!!
وهاهو ذلكم الكوكب الدري يهوي من علياء سمائه الى الأرض وثراها، بعد عمر مديد حافل بسجل العطاءات، وصدق الشاعر حين قال:
ما كنتُ أحسبُ قبلَ دفنكَ في الثرى
أنَّ الكواكبَ في الترابِ تمورُ
وفي الختام: إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإناعلى فراقك ياشيخنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولو أني قدرتُ على قيامٍ
بفرضكَ والحقوقِ الواجباتِ
ملأتُ الأرضَ منْ نظمِ القوافي
وبحتُ بها خلافَ النائحاتِ
ولكني أصبرُ عنكَ نفسي
مخافةَ أنْ أعدَّ من الجناةِ
عليكَ تحيةُ الرحمنِ تترى
برحماتٍ غوادٍ رائحاتٍ
استميح كل قاريء عذرا إن قصرت، واستجلب رضاك إن أخطأت.
عبدالله بن سليمان الوكيل - إمام وخطيب جامع الشعيبة في جلاجل