ما أكثر البشر الذين يُنفقونَ أيامهم في سبيل الجريمة، والأكثر منهم من يمحقونَ المستقبل تكريماً للنفس الآمرة بالسوء، ولكن مهما تعددت الأسباب واختلفت المسببّات كثرتهم لا تعني سلامتهم ولا تنزّه أرواحهم.
ونحن الطبيعيين وهم المجرمين لا نختلف في قدراتنا الدماغية ولا في وجود محركات ذهنية، وإنما في مدى الانتفاع من هذه القدرات والطاقات العقلية، ولو أنّ أحداً منا يفتقد واحداً منها لكان فرداً مجنوناً ليس إلا؛ إذ إن المجنون أهم ما ينقصه عقل ينتفع به، وهذا بالضبط ما أقصده، فالاختلاف يكمن هنا، في العوائد الجوهرية لنعمة العقل التي فُضّلنا بها على سوانا من الخلق، والتي إن لم نسخرها لخدمة أنفسنا وديننا وأمتنا نكون قد فرطنا بما هو لنا وعلينا.
بناءً على هذا من المرفوض بدهيّاً أن يكون قطّاع الطرق والقراصنة ومن يُقدمون على الجريمة أيّاً كانت مجانين؛ لأنهم إن كانوا كذلك لن يتعرضوا للذم الموجب للعقاب؛ فالجنون عذر بليغ يبرر لهم انحرافهم.
إنما الذي يدعو للاندهاش والتساؤل هو أولئك المجرمون الذين وهبهم الباري حدّة في الذكاء وتوقّداً في الفطنة وسرعةً في البديهة فأساءوا استخدامها وأفسدوا في الأرض كائناتٍ كالحيوانات تمضي أقصى همومها في تحصيل ما يلزمها أو ربما ما لا يلزمها، ينتهكون حرمات الغير لصالحهم الخاص، الشيء الذي يتنافى مع قواعد دينهم السوي الذي لا يسمح لهم بالتعرض إلى حقوق الغير لصالح أنفسهم حتى ولو مزقهم الفقر وأرّقتهم البطالة.
وعلى الرغم من تكاثرهم بيننا وتنوع أساليبهم واختلاف مبرراتهم إلا أنه ليس شرطاً أن يتوافر الحق معهم، وليس حقاً أن ينعطفوا عن الفضيلة برضا حتى وإن برّروا لأنفسهم بما يخالف الواقع أو فسروا اندفاعهم بما يُناقض الحقيقة المسلّم بها.
فالنفس بطبعها مفطورة على الصواب وتستنكرْ تلقائياً العنف في شتى أنواعه، ولكن ظروفهم التي نشؤوا عليها أو التي آلوا إليها لها تأثير أول وبعيد المدى في تقويم شخصياتهم وشق طريقهم نحو الحياة.
ربما يعرف أولئك أنهم يُمارسون الرذيلة عِياناً بياناً وأنهم يجهرونَ بها على الملأ بل ويزيّفونَ اسمها، وربما يزيد هذا إحساسهم بالذنب، إلا أنهم يعجزون أمام أنفسهم عن مواجهة ذواتهم بالحقيقة فينحدرون يوماً بعد آخر، وهم إن كانوا بالفعل يقرّون بخطئهم بينهم وبين أنفسهم إلا أنهم يصرّون عليه أمام العامة من منطلق تحقيق الذات والانتصار لرغباتها ليس إلاّ.
وعلى الرغم من أنهم يدركونَ جيداً أن الاعتراف بالخطأ هو بداية العلاج يستمرون في الإعراض؛ ربما لأن العلاج باعتبارهم وباء يُبيد لذتهم المؤقتة التي ارتبطوا بها ارتباطاً وثيقاً ولم يعد باستطاعتهم التخلّي عنها.
مثل أولئك يضرهم العلاج أكثر مما ينفعهم - أقصد العلاج المكثّف - فالرغبة باستئصالهم من مُستنقعات الرذيلة لا تتحقق إلا بالتدريج؛ ذلك لأن الأمر يرتبط بالروح ومتمّماتها من الشهوات، وهذا ما يقتضي التمهّل ويستدعي الحِلم والأناة.
أقول أخيراً: ما أكثر الذين يشترونَ لذتهم بالحرام وما أسرع زوال لذتهم تلك كأنما لم يتمتعوا بها؛ ما يجعلهم يهرعون لاستعادتها؛ فلا داعي لأن تتعجب إذا حدثَ وقابلت من يتشبّث بالباطل بكلتا يديه..
قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
- بريدة