أبو البركات محمد بن عباس، عالم وقاضي، وخطيب وأديب أندلسي عاش في زمن بني الأحمر، أورد ابن الخطيب في كتابه (الإحاطة) بعضا من قصصه وأشعاره وملحه. وسنأتي بلمحة من ملحه المستعذبة غير المخلة ذات الدلالات الموافقة للزمان، كما وردت في كتابنا (مباهج الأندلس).
والأندلس كانت تنتشر بها الحمامات البلدية التي يرتادونها للنظافة والتدليل وتجاذب الحديث، فأضحت جزءاً من الثقافة الأندلسية، وكان الناس يتوحشون منها في الليل، مما يظهر أن ما علق بأذهان الناس حتى يومنا هذا من خروج الجن إلى عالم الإنس واختلاطهم بهم وترويعهم إياهم، إنما هي في الأغلب ثقافة متوارثة جعلت المرء يتخيل ما ليس واقع الحال، فتكثر وساوسه ويزيد وهمه، فيخرج ما اخترنه في عقله الباطن ويوقعه على عالم الحاضر، فيخاف مما ليس له أساس سوى مخزون تربية علقت بذهنه.
وقد جرى لأبي البركات قصة في هذا المنحى، حيث بات في الحمام منفرداً، فانطفأ المصباح وتخيل الجن فقالك (وبت بحمام الخندق من داخل مدينة المرية ليلة الجمعة الثامن من شهر محرم عام اثنين وثلاثين منفرداً، فطفى المصباح، وبقيت مفكراً، فخطر ببالي ما يقول الناس من تخيل الجن في الأرجاء والحمامات، وعدم إقدام كافة الناس إلا ما شذ عند دخولها منفردين بالليل، لا سيما في الظلام، واستشعرت قوة في نفسي عند ذلك، وأدركت أنها أعراض وأوهام، فقلت مرتجلاً، رافعاً بذلك صوتي:
زعم الذين عقولهم قدرها
إن عرضت للبيع غير ثمين
أن الرحا معمورة بالجن
والحمام كذاك بيقين
إن كان ما قالوه حقاً فاحضروا
للحرب هذا اليوم من صفين
فلئن حضرتم فاعلموا بحقيقة
أني مصارع قيس المجنون
ولم ير الجن، ولم يروعوه، وإنما كان وهماً تغلب عليه، فهل نترك أوهام الجن ونتقي الله في أنفسنا وأبنائنا.
ومن قصص الحمامات البلدية والجن طرفة يحكي أن إحدى السيدات في بلاد الأندلس وكانت قبيحة المحيا، دخلت الحمام منفردة قبل طلوع الشمس وأصابتها قشعريرة الخوف من الجن، لتذكر اسم الله قائلة: (بسم الله الرحمن الرحيم) فرد عليها الجني (لقد سبقتني إلى التعوذ باسم الله) لأنه ارتعد من بشاعة منظرها، والعهدة على الراوي.
وفي ملحة أخرى حكى السيد أبو العباس الشريف أنه ساير القاضي أبا البركات في بعض أسفاره زمن الشباب ببر الأندلس فلما انتهيا إلى قرية (ترليانه) وأدركهما النصب واشتد عليهما حر الهجير نزلاً وأكلا من باكر التين الذي هناك وشربا من ذلك الماء العذب، واستلقى أبو البركات تحت شجرة مستظلاً بظلها ثم التفت إلى السيد أبي العباس وقال:
ماذا تقول فدتك النفس في حالي
يفنى زماني في حل وترحال
وارتج عليه فقال لأبي العباس أجز، فقال بديها:
كذا النفوس اللواتي العز يصحبها
لا ترتضي بمقام دون آمال
دعها تسر في الفيافي والقفار إلى
أن تبلغ السؤُل أو موتا بتجوال
الموت أهون من عيش لدى زمن
يعلي اللئيم ويدني الأشرف العالي
ومن ملحه أيضاً ملحة يحكيها ابن الخطيب حيث يقول: ودخلت رياضاً يوماً فوجدت كساء منشوراً للشمس لم أعرفه هل هو من حوايجي، أو من حوايج حارسة البستان، فقالت: هو لجارتي، فقلت:
من منصفى من جارتي جارت علي
مالي كأني كنت من أعدائها
عمدت إلى الشمس التي انتشرت على
أرضي وأمت فيه يبس كسائها
لولا غيوم يوم تيبيس الكسا
سارت لحجب الشمس جل ضيائها
لقضيت منهم بالخسار لأنني
أصبحت مزوراً على بخلانها