تغطية - تركي بن إبراهيم الماضي - علي بن سعد القحطاني
برعاية كريمة من معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجة أقامت مؤسسة الجزيرة وبالتعاون مع النادي الأدبي بالرياض مساء الاثنين الماضي حفلا لتدشين كتاب (عبد الله بن خميس.. قراءات وشهادات) حضرها وشارك بها نخبة من المثقفين والمهتمين.
تأتي هذه الأمسية امتداد لسنة حسنة سنتها صحيفة الجزيرة في تكريم الرواد والمبرزين في مجتمعنا، وقد سبق أن دشنت العام الماضي كتاب عن الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، لقي في حينه أصداء طيبة، وقد وصف الكتاب الراحل القصيبي بأنه أجمل لديه من جائزة نوبل. الأمسية التي وصفت بأنها أمسية الوفاء، ووصف بها وزير الثقافة والإعلام بأنه رجل الوفاء، شهدت كلمات ضافية من المشاركين في برنامج الأمسية، ولأهميتها وأهمية الرجل المكرم بها تنشر (الجزيرة) في هذا الملحق الخاص عن هذه المناسبة الكلمات التي ألقيت في هذه الأمسية.
كلمة معالي الوزير د. عبد العزيز خوجة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين.
أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة
زملائي الكرام في مجلس إدارة وتحرير مؤسسة الجزيرة الصحفية
زملائي رئيس وأعضاء مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض
أسرة أديبنا الكبير العلاَّمة الشيخ عبد الله بن خميس
الإخوة والأخوات
الحفل الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فأجمل لحظة ثقافية أعيشها هي تلك اللحظة التي نلتف فيها حول رمز ثقافي وأدبي كبير، وأشعر، حينها، أننا نكرم العلم والإبداع والنجاح حين نكرم علماً من أعلامنا، نقول له: شكراً لك أن علمتنا الكثير، وأن أضأت لنا درباً، وأتحت لنا أُفقاً جديداً في المعرفة، وأن جعلتنا نفخر بك حين نقول لإخوة لنا: هذا الرمز العلم من بلادنا!
هذا ما أحسست به وأنا أتلقى الدعوة الكريمة للمشاركة في حفل تكريم الأديب العلاَّمة الشيخ عبد الله بن محمد بن خميس - مدّ الله في عمره - وصدقوني إنني كنت سأغشى منتداكم هذا - من غير دعوة - لأعبّر في هذه اللحظة المباركة عن شكري لمن أثرى حياتنا الأدبية بألوان من القول البهي القوي، ولمن شق طريقاً وعراً لكي تتعلم على يديه معنى أن تكون لنا صحافة حديثة، ومن صاغ وجداننا بشعر عربي نبعَ من نفس شاعرة، تروز الكلمات وتنتخب منها قويمها، وتمسنا قصائده بمس من السحر الحلال، في شعر تحدّر إلينا من (ربى اليمامة) فأعادنا إلى حيث يكون الشعر ناصعاً، ساطعاً، بهياً نقياً.
نعم أيها الإخوة والأخوات ذلكم العلم هو الأستاذ الكبير الشاعر والصحفي والمؤرخ والجغرافي والآثاري والمربي العلاَّمة الشيخ عبد الله بن محمد بن خميس!
وحسبي أن أقول: عبد الله بن خميس وأقف، فاسمه غدا رمزاً لتلك القيم العلمية والأدبية التي تحتفل بها أجيال من المثقفين والمثقفات في وطننا العربي الكبير، فالشيخ عبد الله بن خميس مكتبة في رجل، فتراثه العلمي الباذخ يعيد إلى الأذهان أسماء تلك الكوكبة العظيمة من العلماء والأعلام في تراثنا الأدبي والتاريخي والجغرافي، بما أتاحه له الله - تبارك وتعالى - من فسحة في العلم، وذاكرة ثرية وعت جليل المروي، شعراً ونثراً، فكان، بحق جبلاً من العلم، مدَّ الله في عمره.
الإخوة والأخوات:
لا أدري كيف أحيط بتجربة هذا الرائد الكبير، فقد حباه الله أن يصبح رائداً في مجالات عديدة، في الشعر، والصحافة، والتعليم, والتاريخ والجغرافيا.
عرف له وطنه قيمته فكرَّمه حين نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1403هـ واختير عام 1422هـ ليكون الشخصية الأدبية المكرمة في المهرجان الوطني للثقافة والتراث (الجنادرية) وعرف له أشقاؤنا في البلاد العربية علمه وفضله فاختارته مصر ليكون عضواً في (مجمع الخالدين) مجمع اللغة العربية بالقاهرة، واختارته سوريا ليصبح عضواً في المجمع العلمي بدمشق، وكان في كل ما كتب وبحث وحاضرَ أنموذجاً للأصالة في العلم، والبحث، والتنقيب.
وحسبنا أن نعرف فيه الشاعر الكبير، وحسبنا أن نعرف له ريادته في مسيرتنا الشعرية، ولا أدري كيف استطاع، رغم تفرغه للبحث في الأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا والسير في مناكب الأرض، باحثاً، وفاحصاً، ومحققاً - لا أعرف كيف استطاع أن يحفظ لشعره نقاءه وبهاءه وشاعريته؟ ولكن ذلك نفحة من الإبداع التي خص بها الباري - تبارك وتعالى - شاعرنا الملهم.
وشعر شاعرنا الكبير صورة من نفسه، فقد طبعه الله على حب الصحراء، فجاب مجاهلها، واصطفى لنفسه طريقة في الشعر لا يحسنها أي شاعر، فقصائده ثمرة وقوفه على شعر العرب القديم.
نعم لم يستهوه الشعر الجديد، ولم يرتح لنداءات التجديد التي تناثرت في فضاء القصيدة العربية، ولكنه استطاع أن يضمن له أسلوباً مختلفاً في الشعر، حين صاغ شعراً يفوح برائحة الشيح والخزامى، فأطربنا، وحق لنا أن نطرب لشعر نشم في كلماته تراب اليمامة، وصبا نجد، ولا أعرف من نفسي إلا هزة وطرباً، وأنا أقرأ قصيدة من قصائده، وأحس أن شاعرنا ابن خميس يأخذ بيدي إلى زمن الشعر النقي واللغة الصافية، وكأنني أصحب شاعره الفرزدق الذي أسس ابن خميس ذات يوم مطبعة تحمل اسم ذلك الشاعر العربي الكبير، إعجاباً به وبشعره الذي يمتح من معدن السمو والجمال، وينأى بشعره عن المألوف في كلام الناظمين، ويختار النجوع إلى حيث الشعر الذي لا يلين إلا لأُولي العزم من الشعراء الكبار، ويفاجئنا بقصيده الذي يذكرني بقول شاعر العربية الكبير أبي تمام حينما قال:
إليك أرحنا عازب الشعر بعدما
تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها
من المجد فهي الآن غير غرائب
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت
حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحائب
وهذا ما نجده في قصائد شاعرنا الكبير عبد الله بن خميس.. فالشعر لديه ذوب فؤاده ووجدانه حتى لو صيغ في جمل عربية تراثية، وحتى لو اختار تلك الكلمات العذبة رغم ما يبدو عليها من غرابة.
وبالله اسمعوا معي إلى هذا الشاعر اليمامي الكبير حين يقول:
في منحنى العرض من وادي ابن عمار
أوقفت في ربعه المأنوس تسياري
حيث الصبا عشته غضا بساحته
وحيث عمار هذا الربع سماري
وحيث أهلي وجيراني وناشئة
نازعتهم فيه أطواري وأوطاري
إني وإن شط بي عنه النوى زمنا
وناء بي عنه ترحالي وأسفاري
لأفتديه وما أبغى به بدلا
من شعب بوّان أو من ربع سنجار
ألا ترون معي أننا أمام شاعر ينبجس الشعر بين يديه رقة وعذوبة، وأنه يعيدنا إلى الشعر الصافي المتين، وليت أننا نخلو في زماننا هذا اللاهث إلى هذا الشعر الذي يهدينا نفحاته الزكية الرائعة.
والله لا أستطيع أن أغادر شعره دون أن أردد أبياته السامقة من قصيدته الآسرة (من وحي عسير):
مسارح ربرب يغنين حسنا
فما يبغينه حسنا خضيبا
يفوقن السهام بذات هدب
على الغرات يصمين القلوبا
من الغزلات أحلاهن لفظا
على الهمسات يطمعن المريبا
وهن حرائر يأبين سوءاً
جعلن العفة المثلى رقيبا
من الأذواء في عليا معد
إذا عدوا لمكرمة شعوبا
أقاموا في سراة الأزد مجداً
وحلوا في مناكبها رحيبا
الإخوة والأخوات:
إنني في حيرة من أمري، فما الذي آخذ وما الذي أدع من تراث شيخنا العلاَّمة عبد الله بن خميس - حفظه الله - فكتبه علامات مضيئة في تراث العرب الأدبي الحديث، في مجالات متعددة ثرية يفزع إليها الدارسون ليجدوا فيها إجابات شافية عما يمور في أنفسهم حول الجغرافيا العربية، وآداب البادية، وتاريخ الجزيرة العربية، وكانت مؤلفاته محل احترام الباحثين والمثقفين, وأصبحت مرجعاً مهماً لدراسات تاريخ العرب وثقافتهم في العصر الحديث، وأخص بالذكر كتابه الرائد (الأدب الشعبي في جزيرة العرب) الذي أصبح مرجعاً لا يستغني عنه باحث عربي أو مستشرق، وكتابه الأدبي والجغرافي الفريد (المجاز بين اليمامة والحجاز)، وهو كتاب ممتع، وهو على الرغم من موضوعه الجغرافي الذي يتتبع طريق الحج بين الرياض ومكة المكرمة فإنه ذو نزعة أدبية خالصة، وفيه بثّ شيخنا ابن خميس ذاته وروحه في صفحاته التي احتفلت بالأثر والشعر، وكذلك كتبه الجليلة (معجم جبال الجزيرة)، و(معجم اليمامة)، و(الدرعية العاصمة الأولى)، وموسوعته (تاريخ اليمامة)، وكتابه الشهير (من القائل؟).. هذا الكتاب الذي أبان عن علم شيخنا العلاّمة عبد الله بن خميس بالشعر العربي القديم، والذي أمتعنا به حين كان برنامجاً إذاعياً لا يمكن أن يُنسى ثم أصبح أثراً أدبياً خالداً حين أخرج في كتاب مطبوع.
الإخوة والأخوات:
برغم انتماء الشيخ العلاَّمة عبد الله بن محمد بن خميس إلى التاريخ القديم الذي أحبه وأخلص له؛ فإنه، أيضاً، مثقف منتمٍ إلى العصر الحاضر الذي يعيش فيه ويتأثر به، ويؤثر فيه، وكان بانياً لمؤسساته الحديثة. فالشيخ الذي تُذكرنا آثاره الأدبية والتاريخية والجغرافية بالأصمعي، والبلاذري والواقدي، هو نفسه الذي تحمس لإصدار أول مجلة في الأحساء، وهي مجلة (هجر) عام 1376هـ، حين كان مديراً للمعهد العلمي هناك، وهو الذي أصدر عام 1379هـ مجلة (الجزيرة) في الرياض، التي أصبحت بعد ذلك صحيفة يومية كبرى تعبر عن كيف تكون صناعة الصحافة الحديثة، وتساهم مع شقيقاتها من الصحف السعودية في نهضتنا الإعلامية والثقافية والوطنية. وشيخنا العلامة عبد الله بن خميس يتمتع بحس وطني ذي مضمون اجتماعي مستنير، ويعرف له قراؤه في (الجزيرة) وفي صحفنا قبل ما يزيد على خمسين عاماً، غيرته على خيرات هذا الوطن، ومن هنا عرف قيمة الصحافة ودورها في الدفاع عن الوطن، وأثرها في توعية الإنسان والدفاع عن حقوقه، ومن اطلع على مقالاته الجريئة التي جمعها، فيما بعد في كتابه المهم (من جهاد قلم)، يعرف في الشيخ عبد الله بن خميس صفة الكاتب المقالي الوطني الجريء، الذي التفت، منذ وقت مبكر، إلى هموم الوطن، ثرواته، وصناعاته، وأناسه الطيبين في المدن والقرى والهجر، وإذا ما قرئت صحافة تلك المرحلة فلسوف يقف الباحثون كثيراً عن تلك المقالات البالغة الجرأة، والممتلئة وطنية وإنسانية ولعل الكثيرين منا يعرفون لهذا الشيخ الجليل والصحفي المستنير كيف حشدَ جمهرة من مثقفي بلادنا لكي يكتبوا مجموعة من المقالات التي تعبّر عن مسيرتنا الوطنية، وجمعَ تلك المقالات في كتاب قام بتحريره والإشراف عليه يحمل اسم (بلادنا والزيت).
الإخوة والأخوات:
أُثمِّن هذه المبادرات الثقافية التي تعلي من معاني التكريم لروادنا، ولكل مبدعينا، وأُحيي، من جديد، شيخنا الأديب العلاّمة عبد الله بن محمد بن خميس - متعه الله بالصحة والسلامة وطول العمر - وأشكر أسرته التي رعت تراثه وأدبه، هذه الأسرة، المثقفة التي لا تزال مواصلة ما بدأه عميدها، وذلك حين أهدى لنا شيخنا ثمرة يانعة لساحتنا الثقافية هي ابنته الروائية المبدعة الأخت الأستاذة أميمة بنت عبد الله بن خميس التي أحبت البحر، كما أحب والدها العظيم الصحراء، فأخرجت لنا روايتها الجميلة (البحريات)، وأتبعتها بروايتها البديعة (الوارفة).
كما أشكر إخواني في مؤسسة الجزيرة الصحفية ونادي الرياض الأدبي وجميع المشاركين في هذه الاحتفالية التي ازدانت بها سماء الرياض، وأرجو أن نلتقي دائماً في ملتقيات الثقافة والوفاء لكل الناجحين من مبدعي هذا الوطن الغالي علينا جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن محيي خوجة - وزير الثقافة والإعلام