|
يعرف التخطيط بأنه عمل بشري يهدف إلى رسم وتحديد أفضل وأقصر الطرق لتحقيق الغايات والأهداف المنشودة بأقل التكاليف والجهود آخذاً في الاعتبار كافة العوامل. فالتخطيط مهم جداً للدولة وللجماعات وحتى للأفراد. والتخطيط مهم جداً للمهام الكبيرة والصغيرة. وكلما كبرت المهمة أو امتد زمنها زادت أهمية التخطيط لها. تعطي الدول كافة أهمية كبرى للتخطيط لما له من أهمية في الوصول
إلى الهدف المنشود، وحصر الجهود، وتوفير النقود، وتنسيق العمليات والبرامج.
توجد أجهزة مركزية مهمتها التخطيط ومتابعته، كما توجد أجهزة فرعية ولا مركزية تقوم بذلك. كما أن كل فرد وشركة وإدارة تقوم بالتخطيط اللازم لعملها.
المملكة العربية السعودية دولة ناشئة حديثة لم تهمل موضوع التخطيط بل أعطته كثيراً من اهتمامها، ونحمد الله أننا بلغنا مستوى متقدماً في كل المجالات، ولكننا ما زلنا بحاجة إلى المزيد، وكان يمكن لما حققناه أن يكون مضاعفاً لو استقدمنا من أمرنا ما استدبرنا.
التخطيط في المملكة على الرغم من تلك المنجزات الضخمة ما زال تشوبه وتعتريه بعض الشوائب، حيث لا يوجد على حد علمي خطط إستراتيجية لمدد طويلة، عدا ما أشارت وزارة التخطيط في موقعها عن الإستراتيجية بعيدة المدى للاقتصاد الوطني وهي خطة التنمية الثامنة التي تؤطر أربع خطط خمسية قادمة حتى عام 1444هـ - 1445هـ وهي خطوة على الطريق الصحيح إذا ما تم الالتزام بها والعمل والتنفيذ على ضوئها. المملكة اتبعت خططاً خمسية كانت الخطة الأولى منها للأعوام من 1390هـ - 1394هـ وقد بلغنا خطة التنمية للأعوام 1430هـ -1434هـ وهي خطة التنمية التاسعة في مسلسل خطط التنمية. وحتى هذه الخطط الخمسية المتواضعة، وهي قريبة المدى، لم يتم الالتزام بها كما ينبغي حيث إن الأجهزة المسؤولة عن تمويل الخطط وهي عملية مهمة جداً لأي خطة مهما كانت مدتها، تعمل بمنعزل عن تلك الخطط وتركز على عنصر التمويل فقط. فهي تنطلق من المبالغ المحددة لميزانية كل عام. وعندما تبدأ المناقشات مع مندوبي الوزارات والمصالح الحكومية ويقدم كل جهاز خطته التي قد تصل تكلفتها في سنة ما إلى خمسة آلاف مليون ريال على سبيل المثال مثلاً، ويكون حجم نفقات الميزانية لتلك السنة لا يسمح بتخصيص أكثر من ثلاثة آلاف مليون ريال لذلك الجهاز. هنا يتم الاتفاق على تكملة المشاريع السابقة، تسديد الحقوق السابقة، تغطية المصاريف الأساسية، اختيار المشاريع العاجلة من الخطة أو حتى من خارجها. المهم في الأمر ألا يتجاوز حجم المبلغ ما خصص لنفقات تلك السنة. وهكذا يتم تجميد الخطة ويتكرر المشهد سنة بعد أخرى. هذا يعني أن ما جرى تنفيذه من تنمية أو جزء منه كان يتم بشكل سنوي وبدون تخطيط مسبق إن صح التعبير. لقد قام في نظري كل جهاز بدوره حسب مقدرته ومعرفته واجتهاده والحمد لله أن النتائج جيدة، بل جيدة جداً. ربما كنا في عجلة من أمرنا، وكنا مطالبين بتلبية الرغبات والطموحات بأسرع ما يمكن، لذلك ارتكبنا العديد من الأشياء التي أراها خطأ وقد يراها غيري صواباً، الأمثلة متعددة ومعروفة ولا أرى داع لذكرها حتى لا نشير بيد الاتهام إلى هنا وهناك.
ما أريد التركيز عليه هو أننا قد نفذنا الأمور العاجلة، واستفدنا من الطفرة المالية، وقطعنا ببلادنا وشعبنا أشواطاً ومسافات طويلة في طريق التنمية والتقدم والرقي، وقد حان الوقت لكي نلتقط أنفاسنا بعد الركض السريع، ونبدأ برسم الأهداف ويكون لدينا خططاً إستراتيجية طويلة المدى ليس لعشرة أعوام بل لعشرات الأعوام. فالدولة ليست كالأفراد الذين يعمرون لسنوات، فالدول والشعوب تعمر لآلاف السنين. ولذا وجب التخطيط لآجال بعيدة وطويلة. كل وزارة يجب أن تطالب بخطة للخمسين عاماً القادمة، أو حتى مائة عام القادمة، نضع خططاً إستراتيجية شاملة في التعليم والصحة والزراعة والمياه وكل ما نحتاج إليه للخمسين عاماً القادمة، الدفاع ماذا نريد أن نصنع من الأسلحة والمعدات خلال خمسين عاماً، التعليم العالي، الشؤون الاجتماعية، كل جهاز لديه مهام وواجبات ينطلق من وضعه الحاضر، وماضيه خلال السنوات الخمسين الماضية ويخطط للمائة أو الخمسين القادمة. مدننا المكتظة بالسكان يجب أن نغير من خططها لأحيائها الجديدة فنضع شوارع عريضة تتسع للسيارات والقطارات والأتوبيسات والتكاسي والطوارئ، الحدائق والمنتزهات، مساحات للإسكان، ومساحات للدوائر الحكومية، ومساحات للنزهة والاستنشاق. أبعاد المشاريع الكبيرة مثل الجامعات وتوزيع كلياتها على القرى الصغيرة لنجعل منها مدناً متوسطة، المعاهد ومراكز التدريب كذلك، وخلق مجالات عمل في الأرياف والمدن الصغيرة تخفف الضغط على المدن، ويتمسك أهل كل بلد به إذا ما وجد عملاً هناك. ما يعكر صفو تنميتنا وفرحتنا بها أن الأخطاء التي وقعنا فيها في الماضي تتكرر اليوم. فمثلاً مدننا الصغيرة اليوم التي ستصبح كبيرة بعد عشرات السنين لم نخطط لمستقبلها كما ينبغي. كل مشاريع المحافظة تنفذ في عاصمة المحافظة وبذلك سوف تكبر بسرعة وتزدحم، وتضيق فيها الطرقات، ويكتظ بها السكان، وتتركز بها الأعمال والأشغال، تزدحم بها حركة السير بينما تحرم القرى الصغيرة التي لا تبعد عن تلك المدينة سوى عشرين أو خمسين كيلاً، وكان يمكن أن توزع مشاريع المحافظة على كافة قراها لتنمو المحافظة بكاملها، ونجنب المدينة تلك المشاكل. كيف لا نستفيد من أخطائنا ولا من تجارب الدول المتقدمة. في لندن ونيويورك وباريس وطوكيو والقاهرة ملايين الناس الذين يعملون أو يدرسون داخل المدينة ولكنهم يسكنون خارجها.ووسائل المواصلات من قطارات وباصات وسيارات مهيأة تنقلهم بطريقة ميسرة وسريعة وقليلة الثمن. يصلون إلى عملهم في مدة أقصر مما لو كانوا ساكنين في أحياء المدينة نفسها. حب الاستنثار بالشيء ما زال يسيطر علينا ولو كانت تكاليفه ومشاكله ومساوئه أكبر من نفعه. كل الدول بدأت كما بدأنا، والمدن الكبيرة بدأت كما بدأت مدننا، ولذا نرى طرقات وشوارع المدن العالمية داخل المدن (Dawn Town) ضيقة مثل لندن وباريس وجنيف وغيرها، ولكنها استدركت أمرها ولم تستمر على الأساليب التي بدأت بها وخططت لمستقبلها فشقت الشوارع العريضة، وبنت طرق القطارات تحت الأرض على طبقات ومعها الأسواق التجارية، وبنت المطارات على أسس حديثة بعيدة عن وسط المدن وبمساحات شاسعة تسمح بإقامة المدرجات والصالات، بل تجد عدة مطارات في المدينة الواحدة. والمستودعات والفنادق وغير ذلك وربطت كل ذلك بداخل المدن بمختلف شبكات الطرق السريعة، والقطارات وغيرها. شبكات تصريف السيول سليمة وكافية، وكذا المجاري وكافة الخدمات. الشوارع والطرقات كلها بميول وبأشكال هندسية شيقة. وهكذا صاروا مضرب المثل في التخطيط السليم، وفي التنفيذ الجيد، والمتابعة اليقظة، فهل لنا أن نحمد الله على ما فات، ونخطط للقادم والآت.... ذلك ما أرجوه والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
* وكيل الحرس الوطني وعضو مجلس الشورى سابقاً