من المفارقة أن يسيء إليك من أحسنت إليه، ويرميك من حنوت عليه، ويبهتك من رفعت من شأنه، وتجاوزت زلاته، لكنها الدنيا على مر التاريخ فيها أطياف من البشر ذات ألوان، فيهم النبيل ومنهم الخوّان، وكل إناء ينضح بما فيه، ويسير بما يشتهيه، والحكم من الناس على الناس في الدنيا، ومن رب العباد عليهم في الأخرى، ولكل أجل حساب.
والكيّس من يترفع، ويقابل الإساءة بالإحسان، ويحذر الوقوع في ما هو له شانيء، وما هو له ناقد وعائب، وإلا زل كما زل سواه، فلا فرق بين البادئ أو المنتقم، فكلاهما سيان، أساءا ولم يحسنا، ولعل اتقاء شر من أساء يكون بالتجاوز وعدم النظر إلى قول المفترين، وقدح القادحين، إلا إذا تجاوز الأمر إلى المكيدة والسعي بالإساءة والنميمة، فعند ذلك لكل حادث حديث.
أقول هذا وبين يدي قصص الوزير الأديب العالم الشاعر الناثر لسان الدين بن الخطيب الذي عاش في دولة بني الأحمر بالأندلس وعاصر ابن خلدون صاحب المقدمة، وابن زمرك الذي مازالت أشعاره على جدران الحمراء، والقاضي النباهي، وابن فركون وغيرهم، وباستثناء ابن خلدون الذي غادر الأندلس بعد أن رأى أن الوضع السياسي القائم يحمل الكثير من المستقبل المجهول، وأن علاقته مع الوزير لسان الدين قد تشوبها شائبة، ربما بسبب التنافس الذي كثيرا ما يسود في القصور الأندلسية، فإن لسان الدين قد كان أستاذا للباقين، وهو الذي رفع من شأنهم وأعلى مرتبتهم، ثم انقلبوا عليه وقابلوا إحسانه بالإساءة، وبره بالعقوق، وعلى رأسهم ابن زمرك، وقد علق المقري على تنكر ابن زمرك للسان الدين بن الخطيب، وما آل إليه مصيره هو الذي تجرع من الكأس التي أشربها أستاذه لسان الدين فقال: (وهو من تلامذة لسان الدين، ومن عداد خدمه، فحين نبا به الزمان، وتعوض الخوف بعد الأمان، كان أحد الساعين في قتله، وصرح بذمه وهجوه، بعدأن كان ممن يشكره، وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها أينما دارت، ويسيرون حيث سارت، ويشربون من الكأس التي أدارت، وقد تولى المذكور الوزارة عوضا عن ابن الخطيب وصدح طير عزه بعده على فنن من الإقبال رطيب، ثم آل به الأمر إلى القتل كما سعى في قتل لسان الدين، وكان الجزاء له من جنس عمله، والمرء يدان بما كان يدين، وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة، فإنه لا يتعاظمه ذنب، وليس للكل غيره من رب).
وثاني المسيئين لابن الخطيب هو القاضي النباهي الذي أنشأ ابن الخطيب الظهير السلطاني بتوليته القضاء، وهو صاحب الاختيار له، والنصح بتعيينه، وقد أصدر ظهير ثانيا بإضافة الخطابة إلى القضاء، فأظهر معاني كرامته، واصطفاه انتقاء وإيثارا، ورقى درجته تقديرا واعتبارا، وجعل له فيما دون آثارا، فأهداه السعد إظهارا وإضمارا، وقد كان أبو الحسن النباهي يسعى في مرضاة ابن الخطيب سعي العبيد، ويبدأ في الثناء عليه ويعيد، فكم قبّل يده، ثم جاهر بعدائه بعد انتقال الحال، فسبحان مغير الأحوال!!
نموذجان للئيمين، أساءا لرئيسهما وصاحب الفضل عليهما، لأنه كان قادرا على إزاحتهما وإيرادهما الحتف في سنام قوته، لكنها الدنيا تدور لتظهر الزبد الذي يذهب هباء، وليبقى ما ينفع الناس، وهو سمو الأخلاق، وعدم مقابلة الإساءة بالإساءة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
هذه شذرات من التاريخ حكت لنا ما كان، وربما يحكي من يأتي بعدنا ما مارسناه، فإن كان خيرا ظل شاهدا لنا بالفضل، وإن كان غير ذلك فسيوصمنا بما نستحق، والمرء يضع نفسه بسلوكه في الموقع الذي يختاره، والمكانة التي يرتضيها، ليحكم الناس له أو عليه، تجاوز الله عن الأموات ورحمهم، وهدى الله الأحياء وعفا عنهم.