النساء شقائق الرجال، وهنّ نصف المجتمع، وقد أقسم الله بخلقه: الذكر والأنثى، من كلّ الكائنات فقال سبحانه: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) (3) سورة الليل، وبصلاح الأم يصلح المجتمع، والمرأة أسرع انجذاباً للأوامر، وأطوع في التطبيق من الرجل.
وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط، صحابيّة مهاجرة، وأبوها يقولون بأنّ اسمه: أبان بن ذكوان كان من مقدّمي قريش، في الجاهلية وكنية أبيه «أبو معيط»، وكان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدّعوة، فأسروه يوم بدر وقتلوه، ثم صلبوه وهو أول مصلوب في الإسلام (الأعلام 36:5). ولا يضير ابنته التي أسْلَمَتْ وهاجرتْ وكان لها مكانة في الإسلام.
وقد جاء في أعلام النساء عنها - رضى الله عنها - المستقى من عشرة مصادر: بأنّها مهاجرة جليلة أسلمتْ بمكة، وبايعتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة، وخرجتْ في هُدْنة الحديبية، فكانت أول من هاجر من النّساء، ولا يُعْلم قرشيّة خرجَتْ من بيت أبويها مسلمة مهاجرة سواها.
ولما هاجرت لحقها أخواها: الوليد وعمارة إبنا عقبة ليردّاها، فمنعها الله منهما بالإسلام، وذلك أنّ الله أنزل فيها وإيمانها آية تتلى إلى يوم القيامة وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) (10) سورة الممتحنة.
وقال في شأنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبى الله ذلك»، وروتْ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن بُسْرة بن صفوان عشرة أحاديث، وقد أخُرج لها في الصحيحين حديث واحد، متّفق عليه، وروى عنها ابنها حُمَيْد بن عبدالرحمن بن عوف، وإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، وحميد بن نافع وغيره، وكانت تكتب - يعني تجيد القراءة والكتابة (أعلام النساء لعمر كحاله 4 : 255).
قال ابن سعد في طبقاته: لم نعلم قرشيّة خرجَتْ من أبويها مسلمة مهاجرة إلى الله ورسوله، إلاّ أم كلثوم بنت عقبة. فقد خرجت من مكة وحدها، لتلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمة مهاجرة، فقدمت المدينة بعد صُلح الحديبية، فتروي قصتها بقولها: كنت أخرج إلى البادية التي فيها أهلي، وهن في ناحية التّنعيم، وأقيم بالليالي الثلاث والأربع، ولم ينكر أهلي هذا الذهاب، وقد هداني الله للإسلام.
فخرجت يوماً كأني أريد ناحية البادية التي أزورها.. وكنّا نسير جماعة في الطّريق، فلما رجع من جاء معي تخلّفت عنهم، فمرّ بي رجل من خُزَاعة، وقال: أين تريدين يا بنت العرب؟ قلت: ما شأنك بي؟ ومن أنْت؟ قال: رجل من خزاعة.. فلما ذكر خزاعة، اطمأننت إليه، لدخول خزاعة في عهد رسول الله وعقده، الذي تمّ بعد صلح الحديبية، فقلت له: إنني امرأة من قريش، وأريد اللحوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا علم لي بالطريق.
فقال: نحن حلفاؤه، أنا أصاحبكِ، حتى أوصّلكِ المدينة، وما ذلك إلا أن العربي رغم جاهليّته، إلاّ أنّه يعتزّ بالمُثل، والقيم التي اعتاد عليها، بحفظه للجوار والشهامة، والوفاء بالعهد والمواثيق، ويبذل الجهد لتحقيق هذه الأمور.
ثم جاءني ببعير فيه هودج، فركبته فكان يقود البعير بي، والله لم يلتفتْ إليّ، وما يكلمني بكلمة، حتى إذا أناخ البعير، تنحّى عنِّي إلى فَيءْ شجرة، يستظّل بظلها عند استراحته، حتى إذا جاء الرّواح، جهّزَ الهودج فقرّبه وشدّه على البعير، وولىّ عني فإذا ركبت أخذت برأسه وسرنا، ولا يلتفتُ وراءه حتى أنّزِلْ.
فلم يزل هذا شأنه حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله من صاحب خيراً. فلمّا وصلْتُ المدينة، دخلتُ على أم سلمة، وأنا متنقبّة نقاب السّفر، فما عرفتني، فكشفْتُ النّقاب فالتزمتني، وقالت: هاجرت لله عزّ وجلّ، وإلى رسوله؟.
قلت: نعم وأنا أخشى أنْ يَرُدّني رسول الله، كما ردّ أبا جندل وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقوم - يعني أهلها - قد طالت غيبتي عنهم خمسة أيام، منذ فارقتهم، وأخشى أن يتبعوني بأثري، ثم يطلبوني من رسول الله، كما هو شأن أمثالي من الرجال.فدخل رسول الله على أم سلمة، فأخبرته خبري، فرحّب بي وسهّل، فقلت: يا رسول الله إني فررت إليك بديني فاحمني، ولا ترّدني، إليهم يفتنوني ويعذّبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنمّا أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعلم وتعرف، وقدر رأيتك رددت رجلين قَبْلي. فلمّا سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالها، ترّيث قليلاً، ولم يُبْدِ رأياً لما سمع، منتظراً أمر الله.
فسمع الله قولها من فوق سبع سموات، ونزلت في حقها الآيات وفيها حكم المؤمنات المهاجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) سورة الممتحنة الآيتان 10-11، مجلة التربية الإسلامية بغداد.
قال ابن الأثير في أُسْد الغابة: نزلتْ فيها هاتان الآيتان كما قال المفسرّون، فقد هاجرت أم كلثوم إلى الله ورسوله عام الحديبية فجاء أخواها الوليد وفلان - يريد عمارة - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبانها، فأبى أنْ يردها عليهما، ولما قدمت المدينة تزوجها زيد بن حارثة، فَقُتِلَ عنها يوم مؤتة، فتزوجها الزّبير بن العوّام فولدت له زينب ثم طلّقها، وآخر من تزوجها عمرو بن العاص، فمكثت عنده شهراً ثم ماتت رضي الله عنها (أسد الغابة 7: 386). وكان عثمان بن عفّان أخوها من أمّها.
وأم كلثوم بنت عقبة، من كريمات النّساء اللواتي سبقن إلى الإسلام، وفي صلح الحديبيّة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشركي مكة، فكان لأم كلثوم هذه مكانة وذكراً.
فقد ذكر السّيوطيّ في تفسيره، وغيره من المفسّرين، قصّة إسلام أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيْط، وهجرتها الصّادقة للمدينة، يقول السّيوطي، وأخرج من حكاية الرجال والنساء الذين أرادوا اللّحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، بموجب موادّ الصّلح، فردّ الرجال وأبقى بموجب ما نزل من الله في سورة الممتحنة قال: هاجرتْ أم كلثوم بنت عقبة في الهُدْنة فخرج أخواها عمارة والوليد، حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلّماه في أختهما أم كلثوم أنْ يردّها إليهما فنقض الله العهد بينه وبين المشركين خاصّة في النساء، ومنعهنّ أنْ يُرْدَدْنَ إلى المشركين، وأنزل الله آية الامتحان، وبطريق آخر: قال بسنده إلى الواقديّ، قال: فخرجت أمّ كلثوم بنت عقبة، بآيات نزلت فيها، قالت: فكنْتُ أوّل من هاجر إلى المدينة، فلما قَدِمْتُ قَدِمَ أخي الوليد عليّ، فنسخ الله بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المشركين في شأني، ونزلَتْ (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ثم أنكحني النبيّ صلى الله عليه وسلم، زيد بن حارثة، فقلت: أتزوجني بمولاك؟ فأنزل الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(36) سورة الأحزاب. ثم قُتِل زيد فأرسل إليّ الزّبير بن العوام رضي الله عنه: احبسي على نفسك. قلت: نعم. فنزلَتْ (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء) (235) سورة البقرة.
وجاء عند أبي سعد عن أبن شهاب قال: كان المشركون ، قد شرطوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، أن من جاء قبلنا وإنْ كان على دينك، رددته إلينا، ومن جاءنا من قِبَلك لم نردده إليك، فكان يردّ إليهم من جاء من قِبَلهم يدخل في دينه، فلما جاءت أم كلثوم بنت عقبة، بن أبي مُعيط مهاجرة، جاء أخواها يريدان ردّها، وأنْ يخرجاها إليهم، فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) الآية إلى قوله: (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا) قال: هو الصداق. وفي قوله سبحانه: (وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ) قال: هي المرأة تُسْلِمْ فيردّ المسلمون صداقها، إلى الكفار. وما طلّق المسلمون من نساء الكفار عندهم، فعليهم أن يردّوا صداقهنّ إلى المسلمين، فإنْ أمسكوا صداقاً من صداق المسلمين، ممّا فارقوا من نساء الكفار، أمسك المسلمون صداق المسلمات، اللاّتي جئن من قبلهم.
وأخرج ابن إسحاق وابن سعد وابن المنذر، عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنّه سُئِل عن هذه الآية، فكتب أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح قريشاً يوم الحديبية، على أنْ يرد على قريش من جاء فلما هاجر النساء، أبى الله أن يرددن على المشركين، إذا هنّ امتحنّ بمحنة الإسلام، فعرفوا أنهن إنما جئن رغبة فيهّن، فأمر بردّ صداقهنّ إليهم إذا حُبِسْن عنهم، وأنّهم يردوا على المسلمين صدقات من حبسوا عنهم من نسائهم ثم قال: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) فأمْسَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النّساء وردّ الرجال، ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم، لردّ النساء كما ردّ الرجال. ولولا الهدنة والعهد أمسك النّساء ولم يرد لهنّ صداقاً، ووضع أم كلثوم شبيه بوضع خولة بنت ثعلبة الذي سمع الله مجادلتها مع رسول الله في مظاهرة زوجها، فأنزل لكلّ منهما حكماً متميّزاً بالسرّعة والرأفة منه جلَّ وعلا، قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.