في القضايا المهمة التي ترتبط بحياة الأمة ووجودها في الحاضر والمستقبل نتعرض لمأساة (حفظ الفروع وتضييع الأصول).
فها هي الأحاديث والندوات والمقالات تتناول (أزمة الهوية الثقافية) و(أزمة الاستلاب) و(الغزو الفكري)..
فهل ترانا حقاً قد سلكنا الدروب الدقيقة التي تحفظ لنا الأصول فيها؛ فأصبحنا وثقافتنا مصونة وانتماؤنا عميق وأجيالنا الشابة تثبت بحماس وتفان مكانتنا مرموقة مهابة بالأداء المخلص والإتقان والابتكار والتعاون؟؟.. وهل استطعنا أن ننافس الأمم من حولنا تعليماً وتربية وصناعة وزراعة وتقنيات، دواء وسلاحاً، وبمبتكرات واختراعات، أو على الأقل نجحنا في (غرس الرغبة في التنافس) لدى أجيالنا الجديدة؟
ترى هل سلكنا دروب الأصول؟
أم أن أرضيتنا الثقافية مخلخلة، وشمس انتمائنا تتوارى لتشاركنا في أرضنا وأبنائنا انتماءات وجواذب أخرى ما بين شرق وغرب؟ ألا يتجلى ذلك فيما نلوك من أفكار، ونلبس من أزياء، وما تهوى إليه أفئدتنا من زينة القوم في بيوتنا وأطعمتنا وأشربتنا ولهونا وجدنا؟..
أي الفرضين أقرب إلينا.. ولماذا؟
وما العلاج؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن أين؟
إنَّ أمة تهتم بمصيرها.. ويهتم فيها كل فرد بمصيره العاجل والآجل، وبما يمكن أن يحدث له في اليوم القادم والسنة التالية ولعشر أو عشرين عاماً مقبلة..
إنَّ فرداً أو أُمّة تحتفظ بمراكزها العصبية سليمة معافاة استقبالاً وإرسالاً لا ينبغي لها أن تستيقظ فجأة على زلزال، أو أن تحركها من موقع السكون والبلادة (قارعة) تشهدها من مواقع سفاسف الأمور وفروعها لمجالدة طريق الأصول..
أو أن يكون لها أسلوب في إدارة حياتها هو (الإدارة بالأزمات والقوارع) وليس الإدارة بالأهداف!!
والإدارة بالقوارع أو الكوارث هي من حيث الزمن إدارة (بعدية) أي تأتي بعد الأزمة أو بعد الكارثة وليس قبلها.
وهي من حيث الموضوع ضبط وتقنين للكارثة أو الأزمة، أو محاولة لذلك على أحسن الفروض، ولكنها بالتأكيد ليست منعاً ولا (وقاية)..!!
فإذا انتقلنا للحديث عن الجبهة الثقافية.. فإنه من موقعي فرداً مُحِبّاً منتمياً لأمته في هذا الجزء الغالي من أرضنا العربية أتساءل وأقول: ماذا حدث لنا على الجبهة الثقافية؟
حين أسأل نفسي وأحاول أن أجد إجابة بسيطة تقنعني وتقنع مَنْ يسمونه (رجل الشارع)..! فإنه يبدو لي أن ما حدث على الجبهة الثقافية كان يشبه إلى حد بعيد ما يحدث لدى انفجار مفاعل نووي أو ما يقع من تلوث بيئي لدى قوم لم يتحسبوا جيداً لمثل هذه الطوارئ العنيفة.. فماذا يفعلون؟
إنهم يسارعون في الغالب لاتخاذ (قرارات عاجلة)؛ محاولة لدرء الأخطار بعد هذا الانفجار أو ذلك التلوث.. (قرارات بَعْدية).
ومن طبيعة المفاجأة بالأزمة أن تضلل الأفهام، ومن ثم تزيغ الأقدام عن اختيار الطريق الأصيل الواجب في غابة شبكة الطرق الفرعية.
ثم تصدر بعد ذلك سلاسل من القرارات التي نعرفها جيداً، والتي تحاول أن (تحاصر) و(تمتص) ما أفسدته الكارثة. علماً بأن طبيعة القرار العاجل تفضي إلى حتمية الأخطار والقصور المحتمل الذي يمكن أن يشكل - مع الوقت - جزءاً يضخم الأزمة ذاتها.
قرار عاجل كان يبتغي حل أزمة فإذا به أزمة تُضاف إلى الأزمة..!
ينبغي إذن أن يكون التفكير المتحسب للمستقبل وإحسان تصوره هو طريقنا الجديد، وأن تنطبع فطرتنا التي اقتحمت القرن الحادي والعشرين مع الذين أعدوا له بالفعل عدته.. أن نضع نحن أيضاً خططنا وعدداً من الاحتمالات المرجحة! ولئن كان هذا الأسلوب في التفكير والإعداد أصبح اليوم من العلوم القائمة في العالم الصناعي فإن جذوره عندنا عريقة.. عريقة! فهو أمر قرره ربُّ العالمين في تربيته للبشرية منذ بعث أنبياءه،
بل ومنذ خلق آدم حين علمه الأسماء.. وكان هذا تعليماً مستقبلياً يُمكّن آدام عليه السلام من التفاعل مع الحياة التي سيمارسها.. ليس من موقع التجربة والخطأ المستمرين، ولكن بالإعداد السابق قبل الدخول في رحلة مكابدة الحياة ?وعلَّم آدمَ الأسماءَ كُلَّها..?.
كما تفصح قصة يوسف عليه السلام عن خطة مستقبلية تشمل أربعة عشر عاماً يلحقها عامٌ فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون.. وبما يتجاوز الخطط الخمسية والعشرية التي نعرفها وكما اشتهر بها أهل زماننا.. وذلك قبل آلاف السنين..!!
خطة نُفِّذت فأخرجت وطناً بأسره ومَنْ جاوره من قبائل البدو من المجاعة، بينما المجاعات العصرية تطل علينا بوجهها الكالح في المنطقة نفسها التي شهدت التجربة الناجحة، وهي قضية مصيرية تئن منها شعوب تجاورنا في آسيا وإفريقيا.. رغم فارق التقدم الهائل في العلوم والتقنيات!!
فهل الإصابة في الأرض أم في الإنسان؟ وهل ما ينقصنا توجيه وتربية أم تقنيات؟
تلك إذن جذور عريقة (للمستقبلية) غرستها الأديان السماوية في عقول المهتدين.
فكيف يجوز للأتباع بعد كل تلك الآلاف من السنين أن يتخلوا عن هذا الإرث العلمي الإلهي ممثلاً في الفكرة المستقبلية والفكر المستقبلي، خاصة في استقبال الأزمات وعلاجها، فتزل أقدام في حفر الواقع المعاصر ومهاويه بعد ثبوت نتائج التخطيط المستقبلي الباهر بشرط إدارة حاسمة بين يَدَيْ القوي الأمين.