إذا كان ما حدث يوم الأربعاء (الأول) في الثامن من ذي الحجة من عام 1430ه.. «كارثة» باتفاق الجميع على تسميته، فإن ما حدث يوم الأربعاء (الثاني) في الثاني والعشرين من صفر من عام 1432ه.. كان «فضيحة» إدارية وهندسية من عيار ثقيل، ف «الواقع» المبكي الذي عاشته المدينة..
كان «فضيحة»، وما عاناه مواطنوها والمقيمون بها طوال ساعات ذلك اليوم.. وإلى مساء اليوم التالي كان فضيحة، وسباحة البعض ولجوء البعض الآخر للقوارب المطاطية ليعبروا بها أهم شوارع قلب المدينة ك»فلسطين» و»طريق الملك عبدالله».. كان فضيحة، والصور الفوتوغرافية التي قام ب «تسجيلها» ونشرها مصورو الصحف ووكالات الأنباء.. كانت «فضيحة»، وتلك المشاهد التي نقلتها شاشات التلفزيون والفضائيات ومواقع الإنترنيت.. كانت فضيحة الفضائح، والعالم كله يرى مدينتنا التي نسميها ب «عروس البحر الأحمر» غارقة في مياه تلك السدود الآسنة.. وأبناؤها يشمرون عن سواعدهم ويرفعون ثيابهم ليخوضوا في تلك المياه والأوحال وقد غرقت عرباتهم في شوارعها، وتكوم بعضها فوق بعض وكأنها علب من الصفيح أو الكرتون.. أو كأنها لعب أطفال تم الاستغناء عنها..!! فكانت تلك الفضائح مجتمعة - إن أردنا تسمية الأشياء بأسمائها - ودون مجاملة ل «زيد» أو «عمرو».. تعبيراً حقيقياً عن فشل المسؤولين عن «المنطقة» بصفة عامة، وعن عجز «الأمانة» وأجهزتها وموظفيها البالغ عددهم خمسة آلاف من الاستشاريين وكبار الإداريين وصغارهم بصفة خاصة.. عن مواجهة أمطار لم تدم أياماً بل توقفت بعد ساعات قليلة من هطولها، ولكنها كشفت مجدداً عن طبيعة الإهمال واللامبالاة التي يتمتع بها أكثرية موظفي الأمانة، وعن حالة الاسترخاء والدعة التي استغرقتهم طيلة الأربعة عشر شهراً الماضية.. من حين الكارثة (الأولى).. إلى أن فاجأتهم (الثانية).!!
* * *
إن هناك «رابطاً» وثيقاً دون شك بين كارثة الأمس وفضيحة اليوم..!؟ فبعد «الكارثة» الأولى بأربعة أيام.. ورغم ضغوط موسم الحج محلياً، والتزاماته دولياً في رعاية وتأمين سلامة عودة المليون حاج ونيف من حجاج ذلك العام إلى أوطانهم.. أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في تلك اللحظات والأيام الصعبة قراره الحاسم والمسؤول بتشكيل لجنة ل (التحقيق وتقصي الحقائق في أسباب هذه الفاجعة، وتحديد مسؤولية كل جهة حكومية أو أي شخص ذٍي علاقة بها)؟ مع بقية مفردات ما جاء في ذلك القرار البلسم.. الذي شفى الصدور وهدأ الخواطر ووضع الأمور في نصابها، وجعل الناس في طول الوطن وعرضه وليس في «جدة» وحدها يتابعون خطوات تطبيق القرار.. ساعة بساعة.. ويوماً بيوم، باعتباره خطوة تأسيسية منتظرة في محاربة الفساد ورعاته.. وهم يمنون النفس بيوم إعلان انتهاء اللجان التي تفرعت عن اللجنة الملكية ل (التحقيق وتقصي الحقائق) من أعمالها.. ورفعها ل «تقريرها»، وهو ما حدث.. تحت سمع وبصر المواطنين والمقيمين جميعاً، بعد أن أدت الصحافة مشكورة دورها بشفافية وشجاعة تحمد لها في نقل كل ما قامت اللجنة من خطوات لم يخل بعضها من الغلظة.. وإلى حد تقديمها لأدق تفاصيل ملاحقة المطلوبين في الخارج والداخل واحداً بعد واحد.. للمثول أمام «اللجنة»، وإلى أن تم رفع «التقرير» - عن أعمالها - للمقام السامي مصحوباً ب (مطالب مالية) ملحة كشفت عنها تحقيقات اللجنة.. لإنقاذ وضع منطقة شرق طريق الحرمين - أو شرق جدة - وبنيته التحتية المعدومة، وقد أحيل «التقرير» في النهاية إلى سمو النائب الثاني ل «إنفاذه» وإنفاذ ما صحبه من اعتمادات مالية عاجلة، قيل صحفياً.. إنها ستمائة وخمسين مليوناً من الريالات، فكان أن أحيل من تركزت عليهم تهم التقصير أو الإخلال بالمسؤولية.. إلى جهات أمنية للتأكد مما نسب إليهم وتحديده، كما أحيل بعضهم للقضاء بحسب ما أعلن صحفياً.. إلا أنه لم يعلن - بعد ذلك - عن أحكام بعينها صدرت ضد من حامت حولهم شبهات الرأي العام، أو حقائق التحقيقات التي أجرتها «اللجنة»..! وهو ما يدعوني - وربما يدعو غيري - للاعتقاد بأنه أحد أسباب عودة (الكارثة) مجدداً إلى جدة في ثوب هذه «الفضيحة» المخجلة.. بعد أربعة عشر شهراً من الكارثة (الأولى)، إلى جانب تباطؤ وزارة المالية - الموعودة به جدة على الدوام - في سداد ال (650) مليوناً التي صدر الأمر السامي بها بعد الاطلاع على تقرير (اللجنة الملكية).. فلم يصل منه إلا مائتي مليون ريال.. كما جاء في بعض المتابعات الإخبارية عن (الكارثة)!!
* * *
على أن أمانة مدينة جدة.. وإن شُغلت بعض الوقت بتحضير مشاريع شرق جدة الإنقاذية، إلا أنها شُغلت بداية.. بمتابعة أعمال «اللجنة» وما أحدثته من فراغات وظيفية نتيجة الاستدعاءات وكف الأيدي التي قامت بها، ثم شُغلت فيما بعد ب «التغيير» المفاجئ في أمانتها، بقدوم «أمين» جديد لها.. من الغرفة التجارية الصناعية، لم يتفق أعضاؤها على أن يكون أميناً لمجلس إدارتها.. ليصبح أميناً لمدينة «جدة» بحالها، ليقول الأمين الجديد (الدكتور هاني أبو راس).. ما معناه بأنه ليس مسؤولاً عن هذه (الفضيحة)، وهو أمر مقبول.. من الزاوية الزمنية، إذ تم تعيينه قبل أربعة أشهر، ولكنه أضاف في هذا التصريح الذي أدلى به لإحدى صحف الغربية.. إضافة تثير العجب - وربما الضحك - عندما قال (وجدت أمامي 36 مشروعاً متعثراً، لم يتبق منها إلا ثلاثة مشاريع فقط.. سيتم الانتهاء منها قريباً)..!!
ألم يكن من بين هذه الثلاثة والثلاثين مشروعاً - التي استطاع - ولا أدري كيف - أن ينجزها في تلك الشهور الأربعة.. مشروع اسمه: «سد أم الخير».. الترابي المغطى بطبقة أسمنتية رقيقة، الذي ما إن تكاثرت المياه في شرقه.. إلا وانهار تماماً، لتنطلق مياهه سيلاً جارفاً.. صوب تلك الشوارع المحورية (طريق الملك عبدالله وفلسطين، والتحلية والروضة والأمانة).. فتفاجأ كل من فيها وعليها بذلك البحر الهادر من المياه وهي تضع أرواحهم على شفير الهلاك..! وممتلكاتهم وعرباتهم فوق الأمواج لتسير بها.. إلى حيث تريد!!
لقد كان مخجلاً حقاً.. أن يصدر عن الأمانة بيان صحفي في صباح يوم «الفضيحة» ذاته يتحدث عن (جاهزيتها للتعامل مع المطر.. غير أن الوضع مالبث أن تغير واستحالت الأرض بحراً).. كما قال محرر عكاظ الصحفي فالح الذيابي.؟.!!
لكن الحقيقة.. أن انشغال الأمانة الأكثر والأهم طوال تلك الأربعة عشر شهراً وما قبلها.. إنما كان بسبب انغماسها في تلك الحالة الاستثمارية التي غدت عليها أمانة مدينة جدة دون بقية مدن المملكة.. عبر ما سمي بشركات التطوير العمراني، سواء كان اسمها (جدة) أو (الرويس العالمية)!! وهو ما يعني انغماس الأمانة وأجهزتها وكبار مسؤوليها.. في بحر (البزنس) وأرباحه وفوائده وعوائده..!
لقد كان كاشفاً أن يعقد اجتماع على مستوى المنطقة.. في ذات الصباح (!!) لبحث ما تم وما لم يتم إنجازه من خطوات لدعم تلك الشركات.. وليس لبحث مواجهة احتمالات اللحظة والاستعداد لها؟!
* * *
يذكرني - وبكل أسف - «درس» الكارثة الأولى الذي لم تستفد منه «جدة» رغم ضخامته وعنفه والآلام المروعة التي خلفها وراءه وإلى يومنا هذا.. بتلك الدروس التي تلقاها ولم يستفد منها (سطوحي) بطل مسرحية (انتهى الدرس.. يا غبي)، الذي اجتمعت في شخصه البلاهة والذكاء.. والخيابة والفهلوة.. والتخلف مع التحضر جنباً إلى جنب، ورغم أن (سطوحي) حاول الاستفادة من دروس أستاذه الذي تحدى الجميع في أن يخرج (سطوحي) من بلاهته وتخلفه وهمجيته.. إلا أنه رفع يده في النهاية.. قائلاً: لا فائدة.. انتهى الدرس يا غبي.!
فهل انتهى حال «جدة».. إلى ما انتهى إليه حال (سطوحي)..؟
لكم أحزنني.. حالها عند عبوري بشوارعها بعد ظهر يوم الجمعة الماضي! فقد اختفت «العروس» التي أحبها وأعرفها بجمالها وشبابها المتجدد.. وحلت محلها فتاة يتيمة بائسة لا (أب) لها ولا (أم) تسير في أسمال بالية من الوحل، وطوب الأرصفة المخلوعة، وبقايا النفايات التي خلفتها مياه (سد أم الخير).. الترابي العظيم..؟!