يرهقون أنفسهم عسراً، ويحملونها أثقالاًً من البطر، هم أولئك الذين ينظرون للحياة بصورة مقلوبة ويقرأون الأمور بصيغة معكوسة، ويتعاملون مع الأحداث من حولهم بتصرف يبرهن على حالة من العي العقلي وضيق في أفق الإدراك، دون وعي منهم بهذا القصور، أعماهم عنه بطر النفس واستعلاء الذهنية الجوفاء، الجدباء من اخضرار الاستبصار وندى الاقتداء وجداول الحكمة، ناهيك عن مدى تدفقها ودرجة نقاوتها، من هؤلاء من لا يرهق ذاته فقط بعقده وأثقال نفسه المتخمة بطغيان الكبرياء، بل يتلذذ بتحميل الغير أوزاراً من أوزاره، وأوزاناً من غلظة قلبه وصلابة مشاعره الصخرية، لا يفتأ عن فرض إسباغ التوقير عليه ولو كان سراباً وإسداء التقدير له ولو زوراً، وإعلاء مكانته عند نفسه ولو بهتاناً، يصدق ما بدأ به الكذب على جوانحه ودواخله، ويمتثله صدقاً وعدلاً ناله برجاحة العقل وقوة الشكيمة، فيأخذ بالإيحاء للغير أنه مخولٌ لهذا الفضل وصاحبه، وأن العلياء مكانه والمجد مستقره ومآله أينما حل أو رحل، وأن من يفكر بغير هذا فهو قاصر عن فهم القامات والمقامات، لا يقدّر حق الصفوة وخيار الناس، هناك من يعيش هذه النزوات والمشاعر الزائفة دوماً بين صاحبته وبنيه وأسرته ومجتمعه، سادر في غيه ينظر من عليائه الكاذبة الخاطئة إلى البشر وكأنهم أقزام من دمى ولعب يتسلى بالفرجة عليها، وغاب عن باله أن من يرى البشر صغاراً فإنهم يرونه أصغر وأقل شأناً من أن يلتفتوا إليه لما خبروه وعرفوه من انزلاق أفكاره نحوهم إلى مسار يستحق عليه جملة من المخالفات المضاعفة والجزاءات التي تعيده إلى جادة الصواب والواقع، لايزال صدى شدو زهير بن أبي سلمى يردد: (ومن لا يزل يَستَحمِلُ الناس نفسَهُ = ولم يُغنِها يوماً من الدهر يُسأمِ)، وكان قد صدح قائلاً:
(ومن َيغترب يحسب عدواً صديقه
ومن لا يُكَرِّم نفسه لا يُكرَّم).
وللشريف الرضي قوله:
(وإذا فجعت بماء وجهك لم يفد
إن نلت من أيدي الرجال جزيلاً).
المجد والسعادة تنال بالسمعة الطيبة والسيرة الحسنة والذكر المحلق في آفاق الصالحين بإذن الله، لا يمكن أن أكون واعظاً ولا معلماً للفضائل في مقامي هذا غير أنها خواطر تغدو وتروح يدونها القلم أحيانا والشارد أكثر من الوارد وإن صادت الأحبار والقرطاس نزراً منها فهذا من المحمود، ولن أغادر هذه الأسطر إلا بشيء من أقوال لقمان الحكيم، فقد حدث أن قدم رجل إلى مجلس أناس يستمعون إلى لقمان يحدثهم، فسأله: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟! قال نعم أنا هو، فسأله: فما بلغ بك ما أرى؟ أجاب لقمان: توفيق الله ثم أدائي للأمانات وصدق الحديث وتركي مالا يعنيني!! (إذن هو الصدق مع النفس والناس) فأين تلك الشخوص الخاوية الجوفاء من مثل هذا العقل الذي تقصر أطنان الذهب ونفائس المجوهرات عن معادلته.