جمعتني الصدفة في أماكن متفرقة، وأوقات متباينة برجل أعمال، ومسؤول يعمل في القطاع الحكومي، وآخر في ربيبة القطاع الخاص، وتربوي وكان مدار الحديث في تلك المقابلات مجتمعة حول كفاءة خريجي كليات اللغات والترجمة، وقد عبر جميعهم بحكم طبيعة أعمالهم التي تقتضي
التعامل بقرب مع عدد كبير من خريجي كليات اللغات والترجمة في المملكة عن ضعف بارز يشهد به إخفاق أولئك الخريجين في أداء مقبول لما يناط بهم من أعمال، سواء تلك التي لها صلة بالترجمة، أو تقتضي الكتابة باللغة الإنجليزية، أو التواصل مع الناطقين باللغة الإنجليزية، أو عند إضلاعهم بمهنة التربية متسنمين مهمة تدريس اللغة الإنجليزية وذلك كله مؤشر لوجود خلاف في مخرجات كليات اللغات والترجمة من الناحية المهنية التأهيلية.
وفي محاولة لرصد أبعاد هذه الصبغة العامة لمعظم خريجي تلك الكليات تبادر إلى ذهني أن ذلك في رأيي المتواضع يعود في الدرجة الأولى إلى أن كليات اللغات والترجمة في المملكة جنت على هؤلاء الخريجين من غير قصد بعدم فصلها للمسارات الأكاديمية فيها، وعدم تحديدها لهويتها العلمية والمهنية الأكاديمية. وكأني بمخططي برامج تلك الكليات أنهم قد استقوا من فكر عربي سائد قديماً لدى أجدادنا الأفذاذ الذين نادوا بقوة بالأخذ من كل فن بطرف منطلقين في تصورهم هذا أن التميز والريادة العلمية تتأتى فقط من خلال التعرف سريعاً على مقتطفات من هذا الفن وذاك. وربما كان ذلك مقبولاً ومواكبا لمتطلبات تلك الفترة الماضية، ولكنه بالتأكيد لا يتماشى مع استحقاقات عصرنا الراهن الذي يتطلب الدقة والتعمق في التخصص اللذين هما لوحدهما الضامن للتميز، والريادة العلمية.
السمةُ البارزةُ للبرامج الحالية لكليات اللغات والترجمة أنها تحتوي على حقول أربعة متفرقة؛ فهناك مواد في الأدب الإنجليزي، وأخرى في الترجمة، وثالثة في طرق التربية والتعليم، أو لنقل في علم اللغة التطبيقي، ورابعة في علم اللغة النظري، هذا فضلاً عن مواد لغوية أساسية الهدف منها رفع كفاءة الملتحق بالكليات لغوياً ضمن دائرة المهارات اللغوية الرئيسة الأربع: القراءة، والكتابة، والمحادثة، والاستماع.
وبهذا يجد الطالب نفسه تائهاً بين هذه الحقول الأربعة من غير أن يُعطى قدراً كافياً في كل منها على حدة حتى يتسنى له الإجادة فيه، والتميز. فالإلمام بأطراف متناثرة من فنون كل حقل لن يؤدي به إلى أن يعرف الكثير عن مكنونات وقضايا الأدب والنقد الإنجليزي، وهي أيضاً لن تقوده إلى أن يُجيد فن الترجمة بنوعيها الشفوي الفوري والتتابعي، وكذلك الترجمة التحريرية، ولن يكون معلماً كفؤاً، ولن يعرف الكثير عن علم اللغة النظري بأفرعه المتنوعة من نحو، وصرف، وتراكيب لغوية، وصوتيات، وعلم دلالة، وغيرها من المجالات.
ولم تتوقف سلبية هذا التداخل عند هذا الحد، وإنما أسهم الوضع الراهن أيضاً بإيجاد فجوة شاسعة بين ما يُدّرس في هذه الكليات، والمتطلبات الحقيقية التي ينبغي لطلبة هذه الكليات أن يتمكنوا منها ليكونوا أكفاء في الحقول الأربعة المذكورة، فضلاً عن مستوى لغوي فارق في اللغة الإنجليزية ذاتها.
ومن هنا يبدو أن الوقت قد حان من أجل العمل على فصل مسارات كليات اللغات والترجمة المتداخلة من غير سبب قوي مقنع والذي لو تم لانعكس إيجاباً على الطالب نفسه الذي يأتي في المقام الأول باعتباره محوراً رئيساً في العملية التعليمية، وسيؤدي ذلك في الوقت نفسه إلى رفع كفاءة البرامج الأكاديمية في الكليات نفسها.
ومن هنا حتى نساعد الطالب على تحديد مساره بنفسه يجدر بالقيّمين على تلك الكليات أن يجعلوا السنتين الأوليين فيها عامة؛ بحيث يدرس الطالب مواد لغة عامة مكثفة تسهم في رفع مستواه في اللغة الإنجليزية، وفي الوقت نفسه يمكن إعطاؤه مقدمات مركزة وشاملة في كل حقل من الحقول الأربعة الآنفة الذكر حتى يمكن للطالب الإحاطة والتعرف بشكل عام على كل مجال، ومن ثم يكون بإمكانه لاحقاً تحديد مساره ورغبته بناء على تشكل رؤية عامة لديه. وفي السنتين الأخيرتين يمكن إعطاؤه جرعات كافية للتعمق في مسار واحد محدد.
ومما يجدر العمل به أيضاً أن تسعى كليات اللغات والترجمة لتخصيص فصل مستقل للتدريب الميداني وخاصة لمن سيختارون تخصصي علم اللغة التطبيقي، والترجمة، وذلك لأن التدريب الميداني الذي يسبق تخرجهم يعزز وينمي مهاراتهم ومعارفهم التي اكتسبوها أثناء دراستهم الأكاديمية، وبالنسبة لمن سيختارون تخصصي الأدب الإنجليزي، وعلم اللغة النظري يمكن أن يستغل هذا الفصل الإضافي في تعزيز وتنمية قدراتهم الإبداعية والبحثية من خلال عقد دورات، وورش عمل قصيرة لهم، ومن ثم تكليفهم بالقيام بدراسات قصيرة تحليلية ولغوية ميدانية تسهم في رصد، وتحليل، وتقديم الحلول العملية لبعض الظواهر اللغوية المتعلقة بتعلُّم وتعليم اللغة الإنجليزية، بل وحتى معالجة ودراسة بعض القضايا اللغوية النظرية. وفي حالة العمل بموجب هذا الاقتراح يُمنح المتخرج في كليات اللغات والترجمة درجة البكالوريوس في تخصص واحد محدد، وليس كما هو الحال المعمول به حالياً بمنحه بكالوريوس عاماً في اللغة الإنجليزية وآدابها.
ومُقْترح فصل المسارات لا تتوقف فائدته على الطالب نفسه، وإنما يطول الكليات نفسها؛ إذ إنه سيعطيها هامشاً أكبر لتركيز جهودها في بناء خطط، وبرامج أكاديمية أكثر منهجية، وكذلك سيعينها على استقطاب كفاءات علمية تتولى التدريس في مجالات محددة ودقيقة. فيلاحظ المتابع عن قرب لحال كليات اللغات والترجمة أن الجهود فيها مشتتة وغير مركزة باتجاه واضح محدد المعالم؛ وذلك يعود إلى عدم التحديد المسبق لهويتها، وأهدافها بدقة، ومن ثم العمل على إيجاد آلية واضحة لتحقيق تلك الأهداف المعلنة والمحددة على أرض الواقع. وهذا أدى في نهاية المطاف إلى ارتباك وعشوائية طاغية عند بناء الخطط الدراسية، وأدى كذلك إلى عدم ثبات تلك الخطط والبرامج لدرجة أن تغيرها المستمر أصبح هو السياسة المعتمدة الثابتة.
وهذا التخبط إن ساغ التعبير بذلك انعكس بدوره أيضاً على نوعية بعض الأساتذة الذين تستعين بهم كليات اللغات والترجمة الذين ينقصهم التأهيل العلمي الكافي، فضلاً عن ضعفهم اللغوي فهي بسبب شمولية نظرتها، ونقص حاد في كوادرها الأكاديمية تسعى دوماً للاستعانة بمن يملأ فراغاً من غير أن تولي أهمية كبرى فيما إذا كان عضو هيئة التدريس الذي سيلتحق بها فائقاً في تخصصه العلمي أم لا.
وهكذا يتضح أن هناك حاجة ماسة سعياً في سبيل تطوير كليات اللغات والترجمة في المملكة إلى العمل على فصل مساراتها الأكاديمية، وتحديد هوياتها العملية بشكل واضح وصريح لأن ذلك وحده الذي سيجعلها مواكبة لمتطلبات التنمية، وملبية لحاجات مؤسسات القطاعين العام والخاص التي هي بحاجة ماسة إلى كوادر وطنية تتقن اللغة الإنجليزية بحقولها المختلفة. وهي الحاجة التي تبدو اليوم أكثر إلحاحاً من ذي قبل نظراً لأننا نعيش في عصر العولمة الذي يتواصل ويتحاور فيه العالم قاطبة بلغة سائدة واحدة هي اللغة الإنجليزية.