لأحداثِ الشارع العربي قراءاتٌ متعددة وفقَ زواياها واهتمام رائيها ومُترائيها؛ فبينما المشهد العام حديثُ الناس فإن تداعياته التفصيليةَ أهمت المتخصصين؛ فإفرازاته السياسية «مثلا» شغلت كتابات ومداخلات المحللين، وانصرف الاقتصاديون لما يعنيهم، وتوقف المثقفون عند قضاياهم، ومنها: قبول «جابر عصفور» للوزارة في توقيت خاطئ؛ فقد طال الاستفهام عنهما دون إجابة مقنعة، ولم يلتفتوا لانفكاكه عنها إذ الإشكالُ في الموافقة بدءًا وخاتمة.
ليس عصفور موضوعًا لنا لكن حكايته قدمت نموذجًا على مساحة الاحترام التي يستحقها المثقف لا وفقًا لقيمته المعرفية المجردة بل حسب تمثيله المعاني الأخلاقية المنتفية عن اللذة والمصلحة والمنافع الذاتية؛ لنبقى بحاجة إلى مُثُلٍ متحركةٍ تسيرُ على قدمين لا تُنظر للصدق بل تمارسه، ولا تحكي عن النزاهة وإنما تجسدها، ويرى فيها الناسُ رسمًا لمفاهيم الخير.
الأمثلة لا تحصر؛ فحين ادعى «توفيق الحكيم» «عودةَ وعيه» متنكرًا «لعودة روحه» فإنه أساء لنفسه وللمرحلة الساداتية قبل أن يسيء للمرحلة الناصرية التي اختلف معها «جمال حمدان» بشرف تحمل معه الشظف؛ فلزم بيته غيرَ معني بمحاولات استعادته حتى لقي وجه ربه.
الفرق كبير بين المراجعة والتراجع، ولكل منهما إطاره الذهني المقبول والمعقول؛ فالمراجعةُ منطق ومنهج وقراءة ومقاربة وتجرد من الشعارات والمشاعر يتبعها تحررٌ من إرثٍ ثقيل وتواكبٌ مع معطياتٍ جديدة، وناتجها - في الأغلب - مواقف متزنةٌ لا تستدبر كما لا تستقبل، وتتوجه لركنٍ غير قصيٍ ترى فيه ملامح اطمئنان.
لا يتم التحول بين عشية وضحاها، والمسؤولية الفكرية تتطلب المواجهة والاعتراف والتفسير، ولا عذر لمثقفٍ ينتقل من النقيض إلى النقيض كما تفعل عناوين وافتتاحياتُ الصحف التي تباتُ أجهزتها بتبعية وتستيقظ بتبعية مضادة، وحين يفقد المفكر استقلاله الكامل فإنه لن يكون أكثر من بوقٍ ساواه «نزار» بالحذاء «في همزيته» العراقية».
يكثر في زمننا المثقفون «الأبيقوريون» الذين يزنون مواقفهم تبعًا لما تحدثه من تواؤمٍ مع ما يلذ لهم من المتع المادية والمعنوية، وسيبقى العقل منطقة الاجتذاب والتجاذب، وربما بدت القيم متحركةً في مداره كما رأى بعض المفكرين «واصل بن عطاء - نموذجًا إسلاميًا - و»كانت - نموذجًا غربيًا -»، واتساقُ القول والفعل شرط محوري في التوجيه القرآني للخروج من المقت الكبير، وهنا تأتي أهمية كشف المتاجرين أمام ذواتهم وناسهم كي يكونوا مثلا سيئا مُجتنبا؛ فلا معنى لتبييض تاريخهم حين تتبدل الأدوار أو تتغير موازين القوى.
المثقف الحقيقي ذو موقفٍ مبدئي ثابت مهما تبدلت آراؤُه، ولا يعني إيمانه بالاختلاف ورفضه الاصطفافَ بحثَه عن ولاءات أخرى؛ ورغم ما عاناه «سولجنستن» في فترة الحكم الشيوعي فإنه لم يهن أمام النظام الرأسمالي حين استضافته أميركا بضعة عشر عامًا ولم يقبل جنسيتها وعاد لبلده بعد سقوط نظامها الشمولي، وحين أُجبر «نصر حامد أبو زيد» على مغادرة «مصر» والإقامة في المنفى الهولندي محكومًا بالردة ومفصولا عن زوجته فقد رفض إغراءات الجنسية الهولندية، ثم مات في وطنه.
الثقافة سلوك.