اليوم الثاني:
بالكاد رفعت أهدابي لأتلمس ببصري معالم الهضبة أو الساحل الملقى عليه جسدي، عل شارة تدلني في أي مكان من كمين الأمكنة تركتني أو وجدتني. هل أنا بولاية ميرلاند بمدينة بلتيمور في جون هوبكنز كما تقتضي الحالة أم أنني بالرياض حبي الأول ولحافي الأخير، كما أدعو الله أو أنني
لا أدري أين. بدا حامل المغذي وكأنه كائن مربوع غامض لا يكسوه جلد ولا ريش, يقف قرب فراشي ويمد رفش إبرة دقيقة في وريدي. بالكاد أيضًا ميزت أن الساعة تشير إلى الخامسة إلا أنني لم أستطع في خيط الضوء النحيل المنفلت من قماش الستارة السميك على النافذة الوحيدة بالغرفة أن أعرف ما إذا كان الوقت ما قبل الغروب أو أنه قرب الفجر، بالضبط مثل اللحظة التي توقف عندها الزمن عدة أيام بميدان التحرير في التعالق القلق ما بين غروب مشتهى وشروق مشروط بأكثر من رحيل الظلام أو انقضاء الليل.
سيدة لا أعرفها تدخل من باب لم ألحظ وجوده في الجدار فتبدو بقامتها العاجية وشعرها الأحمر كشمعة مشتعلة تمشي نحوي، قبل أن أحل لغزها، تنحني علي وكأنها تريد أن تحتضنني، غير أنني أدرك حين تضع إصبعها على نبضي بأنها لا تريد أكثر من أن تتفقد عدم استسلامي لحتفي.
بصوت مبتل وكأنني قبل قليل كنت أشرق بدمعي أو أخفي في كم مريول المدرسة ضحكي سمعتني أسأل:
Has he gone for good
Who
تساءلت الممرضة البولندية..
من خلال موجة غثيان سبقت ردي تطايرت حروف م...ب...ااااا ر
مددت يدي غير المعلقة في الضمادات إلى الماء غير قريب ولكنه غير بعيد مني,
وقررت أن أجرب الكتابة بيد واحدة على عكس ما فعلت طوال عمري وما أكدته الشهر الماضي بمجلة اليمامة بأن الكتابة بيد واحدة لا تكفي. غير أن الكتابة بيد واحدة على صعوبتها البالغة أسهل بملايين المرات من الفطام عن ذلك الترياق.
تذكرت أبو بشار يوصيني في وقفة الجزيرة معي قبل مغادرتي بساعات قليلة: حاولي أن لا تنقطعي تمامًا عن الكتابة لو استطعت. أجبت:
حقًا وإلا بماذا تراني أستشفي
Really, it is my remedy for healing
أما د. عبدالعزيز السيف الجراح البارع فبصيرته الفاحصة ويده المدربة على تحديد الألم وتعيين
سفر المقاومة للشفاء بإذن الله, لم يتوان أن يكتب لي الحبر ومفاتيح الكمبيوتر وكل مشتقات الكتابة في وصفة العلاج.
يبقى عالقًا في الحنجرة والروح اليوم الأخير لما قبل واليوم الأول لما بعد هذه الحالة الشخصية التي أخوض تجربتها مع أسرتي المستبسلة في الوقوف إلى جانبي مع قلوب وفية من وطني. ولربما أترك كتابتها لريثما أشارك ولو بالمشاهدة والتأمل في مشهد النهر الهادر على الأرض العربية بما يحمله من مد وجزر بين القلق وبين الأمل.
الخميس 17-2-2011
اليوم العاشر
خارج مطعم فرنسي لا أعرف اسمه بمدخل فندق متواضع «برميير إن» وإن كان يمتاز بأهم ما قد يحتاج له الخارج من ظلمة ساعات طويلة على طاولة العمليات ومن إزعاج العزلة عدة أيام في تابوت السرير، النظافة وقربه من مستشفى «رويال فري»، يهطل مطر غزير على زجاج تلك النافذة الواسعة المطلة كشرفة بحر على شارع هامستيد في الشمال الغربي من مدينة لندن. مرة أخرى في رياح الغربة شتاء, إلا أن اللقاء هذه المرة يأتي على غير ميعاد ودون سابق نية أو تخطيط. وهو مع الأسف لقاء جاف كابتسامات الغرباء لا يحمل أي رفة جناح أو رشة لون مما تحمله عادة مواعيد الدراسة أو العمل أو حتى الزيارات الخاطفة أو الإقامات الطويلة التي خضتها في تجارب ترحال سابقة من حياتي الحقيقية أو المتخيلة. شهر فبراير يعرش ببرده اللاذع وأغصانه العارية وألوانه المتدرجة من الرمادي الرصاصي إلى الرمادي الفضي على ذراع الأفق, ويلف روحي بطبقات من السحب والوجد فلا أرى في حبال المياه اللؤلؤية المنهمرة بغزارة مفرطة من السماء إلى الأرض أولئك العابرين أمامي، على عكس أولئك العابرين في داخلي, إلا مجرد أخيلة ملوحة بالضباب والثياب الثقيلة والمظلات والبلل. بعضهم يبدو غامضًا كأسباب وجودي هنا خارج بيتي وخارج وطني في هذه اللحظات البارقة أو الحارقة من تاريخي الشخصي وعمري الوطني والشعري، وبعضهم يظهر واضحًا مثل أسباب وجودي هنا منكفئة بعيدًا عني على الجرح الفاغر في صدري.
في ذلك المكان الذي ليس لي فيه مكان، موسيقى زاعقة سريعة تعبث بصبري وبينما أحاول أن أصم سمعي عنها تتفرس فجأة في وجهي آنية زهور محاصرة بالفراغ ومصابيح أفقدها الوقت عددًا من عيونها لتتحالف مع ذلك الإيقاع الصارخ ضدي. الإنترنت بطيء بطئاً مميتًا مثل تلك السلحفاة السابحة في دمي منذ ولدت لمجرد أن تعترض أسراب الغزلان الجامحة المنطلقة من كل مكان في أعصابي كالأخبار التي انطلقت نشراتها الطائشة على مجرى حواسي وتركتني أتلقى رصاصها المجنون بيدي العارية وحدي مباشرة مثل شباب ليبيا المدجج بالأحلام. أما أيدي غسان وطفول ومشاري وعبدالرحمن وحزمة عريضة من ضوء تلك النور الساهرة على حياتي فتمد خطافات حبها الخلاب إلى عيوني وتسحب روحي من صلب السرير إلى «الفيس بوك» وتترك حنانهم الجارف يتخطفني ليلة الخروج من فم الموت.
الثلثاء 1-3-2011
ياللتوقيت الصائب، كلما قلمني الوجع وأوشكت خطافات الألم أن تعري ذراعي من نسغ الحياة، نظرت من النافذة وتحالفت مع تلك الأغصان التي خرجت قبل الربيع على سلطة الشتاء. وياللااااااا اللامكان، كم نحتاج لفكر نقدي حر وللتأمل والتساؤل والعقلنة, لنفكر في هذا الواقع الراكض فلا نتخلف عنه لئلا يصير حال أصحاب الرأي مثل الحال التي تصدى لها الشاعر الأسباني لوركا حين قال: «اشفقي علي يا سيدتي الجميلة فيكفي أنني أقف على الرصيف كأعمى في تموجات غرناطة».