كنت ضمن المثقفين الذين تلقوا دعوة معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة للحوار معه في ثنايا معرض الرياض الدولي للكتاب 1432هـ (2011)، وقد رغبت في أن أقول مداخلة غير أنه لم تسنح لي الفرصة،
مما دفعني لتدوين بعض الأفكار التي رمت قولها في تلك المداخلة، مع مبادرتي بالقول بأنني شعرتُ - بكل صراحة - بأن الوزارة حين تولاها الدكتور خوجه باتت تدار بنفس ثقافي جميل يستحق التكاتف والتعاضد من قبل الكافة لتطوير العمل الثقافي والإعلامي الوطني.
(1) تحدث البعض عن ضرورة الحجب لبعض الكتب، وهؤلاء الإخوة يغفلون عن حقيقة تجاوز العصر الحاضر لزمن الحجب وثقافته وأدواته، فكل الكتب يمكن استقبالها عبر الإنترنت بسهولة ويسر، وتشتغل بعض الشركات على تحميل عشرات الملايين من الكتب الإلكترونية وجعلها متاحة للقراء، كما أنه قد ولى زمن معاداة الحرية الفكرية، وبتنا نعيش في زمن صعب يلفه التعقيد من كل جانب، ما يجعل المجتمعات المعاصرة بحاجة ماسة إلى التوسل بالأدوات الفكرية المتقدمة لتحليل الظواهر المعقدة والخلوص إلى حلول عملية تفي بحدود معقولة من المتطلبات والإشباعات التي يتم تصنيعها وفق تروس التغير الاجتماعي، طبعا مع فرز ما ُيقبل وما ُيرفض من عملية التغير الاجتماعي، وإني أحسب أن أولئك المطالبين بالحجب يغفلون عن حقيقة أن (الإسلام دين عقلاني بامتياز) وقادر على دحض كل الشبهات والأفكار والفلسفات الرديئة بأدوات عقلانية متقدمة، وإني أجزم بأن الطروحات التي يعج بها المشهد الفكري العربي هذه العقود ستعمل على إعادة إنتاج (الإسلام النهضوي) بشقه الروحي والعقلي والمدني، ولنقل بشقه الإنساني والحضاري، وستخلق من الإسلام إسلاماً أقوى وأبقى.
(2) (وزارة الثقافة) بحاجة إلى (ثقافة جديدة).
هذه حقيقة يجب علينا التوقف عندها، فالوزارة مطالبة بأن تمتلك أدوات متقدمة للتعاطي مع الأجيال الشابة بروح العصر، عبر فكر متقدم وأدوات متقدمة هي الأخرى.
فالفضاء السايبري (أي الإنترنت) يتيح لتلك الأجيال مساحة كبيرة لتنام غير محدود لفرص التعبير عن الذات بشكل حر ورفض متزايد وبدون مواربة للسيطرة والممارسات الاستبدادية، فهو فضاء يحمل لهم خيارات ديموقراطية متنوعة، تجعلهم لا يطيقون مصادرة الآراء وكبت الحريات، وهذا يعني سلوكاً انسحابياً من (دكتاتورية عالمهم الواقعي) إلى (ديموقراطية عالمهم الافتراضي) التي تمنحهم شكلاً من (المواطنة الافتراضية) أو (الإلكترونية)، ومما لا شك فيه أن ذلك يحمل انعكاسات خطيرة للغاية- وقد ذكرتُ بعضها في كتابي أسرار الهندسة الاجتماعية-، وهي انعكاسات ينبغي التفطن لها ومعالجتها بأسلوب حكيم.
وإني أقول للدكتور عبدالعزيز خوجة بأن كل ما سبق يدفعني إلى اقتراح تشكيل مجلس استشاري شبابي للوزارة على أن ُيمثل بمجموعة متنوعة من الشباب (فتيان وفتيات)، وتمكينهم من طرح آرائهم في جو يضمن لهم الحرية والأمن، وإلا فإنهم سيغادروننا إلى (ديموقراطية عالمهم الافتراضي)، وسيظفرون هنالك بالكثير، وقد ندفع نحن الكثير من جراء عدم تخلينا عن عادة (التفكير نيابة عن الأجيال الجديدة)!
(3) يقول أحدهم: إذا لم تكن شاعراً فكن قصيدة، وأنا أقول إن لم تكن وزارة الثقافة والإعلام قائدة الحراك في تطوير صناعة الكتاب لدينا فلتكن على الأقل المحرض على ذلك، وأنا أدعو الوزارة إلى تبني طرح ندوات متسلسلة تراكمية عن صناعة الكتاب، واضعاً بين يديها جملة من الحقائق، التي تدور حول ما بات يسمى ب(الصناعات الإبداعية) Creative Products وقد سعدت بما ألمح إليه الدكتور خوجة في كلمته للمثقفين حول الاشتغال في مسار (الصناعات الثقافية).
يشير (جون هارتلي) إلى أن فكرة الصناعات الإبداعية تستهدف توضيح التقارب المفاهيمي والعملي بين الفنون الإبداعية (الموهبة الفردية) والصناعات الثقافية (النطاق الجماهيري)، في إطار تقنيات إعلام جديد داخل (اقتصاد المعرفة)؛ يستخدمها مواطنون - مستهلكون تفاعليون جدد.
ويؤكد هارتلي وزملاؤه في كتاب الصناعات الإبداعية- كيف تُنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة (أنظر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 338.، 2007) على أن الإبداع سيقود التغير الاجتماعي والاقتصادي في هذا القرن، مشيراً إلى مفهوم الصناعات الإبداعية قد ظهر في أستراليا أوائل التسعينيات من القرن العشرين، وقد تفاعلت معه بعض الحكومات الغربية بشكل جاد، ومن ذلك أن حكومة (توني بلير) أسست وحدة خاصة للصناعات الإبداعية في وزارة الثقافة البريطانية مع تأكيد الوزارة على حتمية دعم وتشجيع الإبداع الناتج من (الملكية الفكرية) أو المتعامل معها، ومع الوقت أصبح التركيز بشكل أكبر على الصناعات ذات النزعة الفنية والثقافية وحقوق النشر (أي مع تركيز أقل على براءات الاختراع والماركات المسجلة التي تلقى اهتماماً أكبر لدى وزارة التجارة والصناعة).
وقد استعرض هارتلي بعض مؤشرات أهمية الصناعات الإبداعية في الاقتصاد الجديد، ومن ذلك ما يلي: في عام 2001م قدرت صافي عوائد الصناعات الإبداعية الناتجة فقط من (صناعة حقوق النشر الأمريكية) بنحو 791.2 مليار دولار وهو ما يعادل 7.75% من إجمالي الناتج القومي، ويقدر عدد العاملين في تلك الصناعة بـ 8 مليون، وتسهم في قرابة 89 مليارا بالصادرات وهذا يعني تفوقها على الصناعات الكيميائية والسيارات والطائرات وقطاع الزراعة والقطع الإلكترونية والكمبيوتر.
أما في بريطانيا فقد قدرت عوائد تلك الصناعات بـ 112.52 مليار جنيه إسترليني ويعمل بها 1.3 مليون وتشكل ما يقارب 5% من الناتج الإجمالي، وفي أستراليا تشهد تلك الصناعات نمواً مطردا بلغ ضعف معدل نمو الاقتصاد ككل (كتاب الصناعات الإبداعية، ص 8).
وليكن في المنظور الإستراتيجي الجديد لوزارة الثقافة والإعلام تأسيس إدارة متخصصة بالصناعات الإبداعية، ولتعقد تلك الإدارة ندوات متخصصة في صناعة الكتاب ولباقي أدوات الصناعات الإبداعية، خاصة أننا نحكي - أقول نحكي - هذه الأيام كثيراًً عن (الاقتصاد المعرفي)، وأحسب أن الوزارة - إن هي ُمكنت - قادرة على القيام بدور محوري في هذا المجال بشرط اصطياد عوامل النجاح الحرجة في تلك الصناعة التي لا تجلب الأموال فقط بل تصنع العقول المفكرة المتحضرة وهذا الأهم والأبقى.
وأخيراً كنت أود أن أقول كلمة في مداخلتي حول العمل الصحفي، فهو بجاحة إلى تقييم مهني شامل مستقل، ولعلي أكتفي بهذا القدر المقتضب، على أن أكمل ما لدي حول العمل الصحفي في مناسبة قادمة.
وكل معرض كتاب وأنتم بخير.