في الصين لم تكن هناك طبقة ثرية فيما مضى سوى تلك النافذة في الحزب الشيوعي الحاكم، وربما كانت تخفي أموالها بأساليبها المختلفة، ثم جاء عصر الانفتاح، وترك السوق لعوامل العرض والطلب الذي أخذ حيزاً في الدفع بعجلة الإنتاج وتحديد الأسعار، ولكن بضوابط محددة مخافة أن ينتج عن الانتقال السريع وغير المنضبط نتائج لا تحمد عقباها في دولة يقارب سكانها المليار وثلث المليار، ونجحت الصين نجاحاً كبيراً في التحول الاقتصادي المقنن؛ مما ساعد في الحد من الآثار التي ربما قد تكون وخيمة لو لم تكن تلك الضوابط موجودة على أرض الواقع، مع بعض الهفوات هنا وهناك التي قد لا تخلو منها أي عملية إصلاح اقتصادي في العالم. وسارت الصين في مسيرتها الاقتصادية وتسارع معدل النمو، وفتحت أبوابها ونوافذها وأسوارها المنيعة لتغادر من خلالها بضائعها رخيصة الثمن، لكنها كانت حريصة على وضع الأدوات الكفيلة بالحد من التيار المضاد القادم من الدول الأخرى. لم تكن كثير من الدول سعيدة بذلك التطور الهائل في الإنتاج والتصدير الصيني، لأن الغزو كان كاسحاً وشاملاً لجميع القطاعات الاقتصادية، مع أن بعضاً من المجتمعات كانت أكثر سعادة بالمنتجات الصينية حيث أصبحت قادرة على الحصول على احتياجاتها بأسعار معقولة تتماشى مع ظروفها الاقتصادية ودخولها غير الكبيرة. كانت التقنية هي العامل الحاسم في مساعدة الصين على تحقيق مبتغاها، وانتزاع حصص لا بأس بها من أسواق كانت أسيرة الدول المتقدمة اقتصادياً، وكانت ثقافة الفرد الصيني في الإنتاج وبذل الجهد والعمل الدؤوب هي المعول الذي به تم الوصول إلى ما وصلت إليه الصين. وزرع الثقافة الإنتاجية ليس باليسير، لكن إذا كانت جبلة في مجتمع بعينه فإن المجتمع يظهر إبداعاته عند توافر معطيات الإنتاج وخلق فضاء للمنافسة والإبداع، ولهذا فإن التغيير الذي شهده المجتمع الصيني إنما هو نتائج لتوفير بنية صالحة للإنتاج فجرت مخزونا وراثيا من القدرات والعمل الجاد، والإنتاج الغزير، إلا أن الابتكار يظل أقل رواجاً مقارنة بتلك المبتكرات في العالم الغربي، وهذا الوضع يذكرني بما قاله لي أحد الإخوة الصينيين: اليد الصينية، والعقل الغربي، واللسان العربي، ولكل مجتمع تميزه، وأقول دائماً لعل العقل العربي واليد العربية تجد بيئة مناسبة للإنتاج، ولا مانع من وجود اللسان العربي ليضفي على تلك العملية جمالاً وبهاء.عندما أخذت الصين في النمو خشي البعض أن تكون هناك فوارق طبيعية قد تؤدي إلى مشاكل اجتماعية لمجتمع كثير العدد مثل الصين، لكن ما تعيشه الصين الآن لا يعطي أي مؤشر على نشوء مشاكل تهدد المجتمع مع الحذر في المستقبل. والطبقة الصينية الثرية ظلت تدفع بالإنتاج قدما بينما زاد دخل الفرد الصيني العادي بنسبة ربما تماثل معدل التضخم المصاحب لهذا النمو الكبير الذي بلغ 9.6% في الآونة الأخيرة وفي ظروف اقتصادية عالمية غير جيدة في الوقت الحاضر، مما يدل على أن معدل النمو في الصين سيظل يمثل رقماً صعباً في عالم الاقتصاد مما يؤكد للعالم أجمع وبلا شك أن الصين هي الدولة القادمة لتعتلي قمة الاقتصاد العالمي، لكن ثقافة الإبداع ستظل محور تحديد مستقبل الصين بعد أن تجاوزت محور الإنتاج.
وسيبقى الأمل أن يكون لعالمنا العربي مساحة على هذه الأرض التي تعطي من يعطيها.