|
بقلم: محمود مفلح
سيرة عنترة سيرة مضيئة في التراث العربي تحكي قصة شاعر فارس ظلمه الأهل ثم ما لبثوا أن أنصفوه عندما رأوا أنه يستحق هذا الإنصاف، وقد استدعى الشاعر الدكتور وليد قصاب هذه الشخصية التراثية الغنية بتاريخها ودلالاتها ليعالج من خلالها قضايا الواقع ومشكلاته، ولهذا فهو يهدي هذه المجموعة:
«للسائلين عن الشهامة والبطولة والخلال وعن الكريم من الفعال»
«للباحثين عن الرجال وقد علا في الأرض أشباه الرجال «
ويسترسل الشاعر في إهدائه، مستعرضاً جوانب الخلل في بناء هذه الأمة.. وما أكثرها! مقدماً سيرة عنترة العبسي نموذجاً يحتذى وعلامة مضيئة في التاريخ.
ويحاول قدر ما يسمح له به الشعر أن يشخص أدواء كثيرة استوطنت جسد أمته مستنكراً ومنتقداً
للخارجين إلى ذرا التاريخ من قلب العدم..
للخارجين ولا فحولة من أب رفعتهم أو حازها خالٌ وعم
إن قصرت أحسابهم
أو عيرت ألوانهم
سبقت بهم خيل العزيمة والهمم
إذن فإن هذه الصفحات من سيرة عنترة أهديت لكلا الصنفين، الصنف المتخاذل المتهافت ليعتبر، والصنف الجريء العصامي ليعرفه الناس! وفي نهاية كل مقطع تأتي العبارة اللازمة:
تهدى قصائد عنترة لتضيء شمعتها النفوس المقفرة!
ولو قال الشاعر: للصاعدين إلى ذرا التاريخ، بدلاً من للخارجين.... لكانت أكثر اتساقاً مع المبنى ودقة في التعبير.
ويمضي الشعر في الصفحات الأولى (صفحات الإهداء) موقعاً توقيعاً موسيقياً عذباً بحيث تتعانق الفكرة مع النغم مع الصورة الفنية مشكلة المشهد الشعري. وفي هذه القصائد تبرز ثقافة الشاعر اللغوية العميقة، وقدرته على تطويع المفردة: لتحقيق الغرض الفني. والشاعر عندما يبدأ الإهداءات
بقوله مثلاً:
للواثبين إلى العلا/ للخارجين إلى ذرا التاريخ/ للعاشقين نسائم الفجر الطهور
أقول إن هذه الفواتح الشعرية هي القواعد التي ينطلق منها الشاعر إلى الآفاق الرحبة من الأفكار والأخيلة والصور الحية وكأنما هذه الفواتح هي «منصات» إطلاق، ولم أر رغم تكرار الأسلوب في هذه الإهداءات أي أثر للضعف أو الفتور، بل على العكس تماماً فإن الشاعر -ومع كل فاتحة من هذه الفواتح- يحرّض القارئ على المتابعة والاندماج في جو القصيدة، لأن في كل نص لوناً من ألوان النقد الاجتماعي الساخر؛ فهو يضرب في معظم ما أشار كما يقال على «العصب»، وما هذه الشخصية التراثية الغنية التي اختارها سوى النافذة التي يطل منها على العصر الذي يموج بالمتناقضات، موظفاً هذا الشعر الناقد الجرئ العذب لحمل رسالة الشاعر الفكرية التي لا تغيب عن النص أبداً:
للعاشقين نسائم الفجر الطهور
للقادمين يقودهم نور المحبة والحبور
للنافرين من الخنا
والثائرين على الفجور
للشاهرين سيوفهم في وجه أعداء الحياة
كي يعلنوا أن السمو لكل مقدام جسور
هؤلاء هم الذين يحبهم الشاعر، ويهديهم سيرة عنترة، ليثبت خطاهم، ويمنحهم المزيد من الأمل.
ولا أريد الاسترسال كثيراً مع هذه الاهداءات الشغرية التي بلغت ربع الديوان تقريباً، ولكني أقول إن تلونها وتعددها وحيويّة معالجتها للسلبيات - بالإضافة إلى ثراء القاموس الشعري لدى الشاعر، وتمكنه من ناصية اللغة، ثم الايقاع الرشيق المؤثر «لأن نصف المعنى يصل عبر موسيقى الشعر كما يقال- كل ذلك لعب دوراً هاماً في حيوية النص وانسيابه، ولعب دوراً أيضاً في شدّ القارئ إلى المتابعة، من دون أن يمل أو يتثاءب، وهذه ميزة قل أن تتوفر في القصائد الطوال التي تنتهي في معظم الأحيان بالخفوت والترهل! أما في القصائد التي تلي الاهداءات فإن الشاعر يتخذ منهجاً جديداً؛ إذ يستعرض بعض أبيات لعنترة تحمل فكرة جوهرية يريدها الشاعر، ثم يقوم بالتعليق عليها شعرياً مثل:
هلا سألت ابنة العبسي ما نسبي
عند الطعان إذا ما احمرّت الحدقُ؟
وجالت الخيل بالأبطال عابسة
شعث النواصي عليها البيض تأتلق
هذه صور مشرقة للبطولة العربية.
ويأتي تعليق الدكتور وليد على هذا النص مستلهماً روحه، وبأسلوب معاصر كقوله:
« أرأيت أظلم منهم يا عبلةُ؟
قد أنكروني دائماً وتعنتوا
زرعوا فؤادي حسرة
كادت ضلوعي من أسى تتفتتُ!»
والشاعر من خلال هذه التعليقات يؤكد على أنه قرأ سيرة عنترة قراءة عميقة كما قرأ شعره، لأن التناص واضح بين الشاعر وعنترة في كثير من المقاطع كقوله:
ولقد تحملت الطوى من أجلهم
حتى أنال به كريم الماكل
والشاعر لا يتقيد بمضمون أبيات عنترة ولكنه يتخذها مرتكزاً كما أسلفنا لينطلق إلى عالمه الخاص دون أن يفقد الصلة بجوهرها، ومن خلال هذه التعليقات الشعرية الذكية يكرس الشاعر القيم التي آمن بها: قيم العدالة الاجتماعية، والأخوة الانسانية، والتقوى، وغير ذلك. تلك القيم التي دعا إليها الإسلام وحث عليها الناس جميعاً:
أياً يكون المرء
إن فعاله خطت له فوق الكواكب أسطرا
ومن أجمل ما قرأت من تعليق شعري لشاعرنا ذاك النص الذي يعقب فيه على قصيدة عنترة الشعرية التي مطلعها:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
يقول الدكتور وليد في التعليق:
يا عبل تنساحين عبر جوانحي العطشى
فتروى ثم تخصب أضلعي
وأرى خيالك حيثما يممت منساباً معي
وأراك غنوتي التي كُتبت بجمر الأدمع!.... إلخ.
هذه لغة عصرية رقيقة، ومفردات شاعت في القصيدة الحديثة/ تنساحين// خيالك ينساب// جمر الأدمع/ إلخ....
فالنص مكتنز بالجمال، والشاعر لا يتهاون في هذا العنصر الجمالي في معظم قصائده على الرغم من إمساكه بالفكرة وحرصه على إيصالها.
وإن تعانق وتمازج الثقافة التراثية بالثقافة المعاصرة أغنى النص. ومن شواهد هذه الثقافة التراثية قوله:
والمنايا حُوّم حولي
ومالي مهرب
وسيوف خصمي شرّع « إلخ...
كلها صور مألوفة في شعرنا العربي القديم، وإن استخدام الشاعر لها لا يقلل من قيمة النص؛ لأن ثقافة العصر ومعطياته تسطع في أكثر النصوص، وهي تشكل خيوطاً لامعة في النسسيج الشعري.
والشاعر حينما يختار مقاطع محددة من شعر عنترة ويصدر بها تعليقه يدري أنه يختار مقاطع موحية ذات ظلال تحفز الشاعر على تحديها، وإغناء مضمونها وشكلها، والافتراق عنها أحياناً، فتعليقه على قول عنترة مثلاً:
وكأنما نظرت بعينيْ شادن
رشأ من الغزلان ليس بتوأم
رأيت الشاعر يترجم هذه النظرة، ويغوص في معانيها ومراميها، ويُحمّلها ما يعتلج في صدره وما يحلو له أن يقول:
يا فارسي
وضيا العيون وشاعري
كم فارس خاتلت في ساح الوغى.. ومغامر
وطعنت ثم خرجت في عدو الهزبر النافر
إن (عبلة) لا تجرؤ عملياً على البوح بمثل هذا الكلام، ولكن خيال الشاعر أنطقها لتكون محوراً من محاور النص، وتزيد هذا النص حيوية، ولا أزعم أن الشاعر استطاع أن يحافظ على المستوى الفني الجمالي نفسه طوال الوقت لأن هناك مقاطع، وإن كانت قليلة تفقد نضرة الشعر ودهشته لتتحول إلى نثر أو قريب من النثر كقوله:
سيكون هذا العبد عنترة
غداً بفتاته الحسنا جديراً
ولسوف يرفع رأسكم فوق النجوم تباهياً وغروراً
ويستمر هذا الكلام العادي لينتهي بقول الشاعر:
وغداً غداً
سيكون كل الحي
في عرسي حضورا
أما التوظيف الفكري في النص فإنه لا يخفى على القارئ حتى يطغى أحياناً على جمال التعبير والتصوير كقوله:
والحق ما طال المدى
آت و آت
الحق تحجب شمسه عمداً أكاذيب الطغاة
لكنه يأتي وإن طال الغياب
يقوده جيش الهداة...
وما أجمل هذه القصيدة التي تختزل الديوان كله وتفصح عن مكنون الشاعر وهدفه وكيف يبدو «عنترة» فيها رمزاً للإنسان العربي المسلم الذي ظلم واضطهد ونفي وحوصر وتكاثرت عليه الذئاب وأصابه من السهام ما أصابه!! هذا الإنسان الذي يختبئ تحت قناع عنترة لا بد أن يشفى من سقمه، ويعود إلى عافيته.. تماماً كما قال الشاعر عن «عنترة»
مذ صح عنترة وأبرئ سقمه
وصحا من الأوجاع
عوفي جرحه
عادت إلى عبس تباشير الحياة
وربت صحاريها العجاف... تدفقت فيها المياه
كسرت قيود الذل واندحر الطغاة
رجع البريق إلى العيون!
تشامخت... تلك الجباه!
والأمر لا يحتاج إلى كثير من التفكير لندرك أن هذا الديوان هو ابن المرحلة الراهنة... وثمرة ظروفها التاريخية، رغم أن الشاعر اتكأ فيه على شخصية عنترة لما لها من سحر تاريخي، ومن خلال هذا الرمز البطولي في تاريخنا استطاع أن يعالج قضايا كثيرة.. ويضمد جراحاً ناغرة في جسد هذه الأمة، ويُحمل النصوص كل ما ملك من طاقة تعبيريه وفكريه.
وأخيرا أقول صادقاً: إن هذا الديوان الشعري يمثل نقلة فنية واسعة في مسيرة الدكتور وليد الشعرية. وإذا كان الشعراء يجازفون في اختيار موضوعاتهم، والتعبير عنها جمالياً؛ فإن الدكتور وليد أصاب في اختيار موضوعه، واستطاع أن يعبر من خلاله عن معاناته الشخصية. التي تمثل معاناة الأمة كلها.
والديوان في رأيي يتجه إلى سمت واحد،إلى محرق واحد، وهو ما آلت إليه أمتنا من ذل وهوان من خلال وقائع التاريخ. كما تعتمد هذه الرؤية على وعي الشاعر وثقافته، وكلما اتسع وعيه جاءت القصائد مكتزة وممتعة وهذا ما لمسته في أكثر قصائد الديوان.
ثم إن حرص الدكتور وليد على الإيقاع أضفى على نصوصه جمالاً؛ فالشعر العربي حافل بالموسيقى والإيقاعات الغنية جداً مما يوسع مجالاً رحباً لتكثيف المضامين كما يقول الشاعر الألماني /ريلكة/
وصدق من قال: إن رؤية الشاعر تشبه الماء في نقائه، والشعر لغة الخيال والمشاعر والفكر،
وهذه العناصر الثلاثة هي التي أسهمت في هذا النسيج الشعري الناصع في ديوان صفحات من سيرة عنترة للشاعر الدكتور وليد قصاب.