في تاريخنا الإنساني المعاصر شخصيات تستحق الوقوف عند تجربتها السياسية الخالدة، وربما الذي يغرينا بذلك الوقوف هو النقيض الذي تعيشه الأمة العربية في هذه الحمى التي اكتسحت الجسد المنتفض من فرط حرارتها الأشد قسوة من حمى أبي الطيب المتنبي؛ لأن الواقع الملوث بالفيروسات والمكيروبات لا يمكن تعقيمه
مهما حاول المتمدنون والوطنيون ذلك؛ فالأوان فاتت فرصه ألبتة، حكام وأحزاب يتشبثون بالسلطة والكرسي وشعوبهم ملأت الشوارع احتجاجا وشعاراتها (ارحل ،ارحل، مش حنرحل) والمرعب أن الحاكم لا يفهم لغة شعبه؛ لأنه وضع سدا منيعا بينه وبينهم حتى أصبحوا غير مفهومين له والشعب في لحظة الفوضى لا يسمع أي صوت غير صوتها مهما كان متزنا طيلة عقود ولن يرضى في هذه الحمى صرخة حاكمه: الآن فهمتكم.. ولابد من خروجه ولو حافي القدمين. واقع مرير وفضائيات شاهدة على حزن الإنسان العربي بكل طوائفه وثقافاته وقضاياه، دبابات دفع الشعب ثمنها من قوت يومه لتدافع عنه توجه مدافعها له دون هوادة، وطائرات كانت صفاقتها على حساب تعليمه وصحته والحياة المدنية تقلع من مطاراتها لتدمر شعوبها المملوءة بالمرض والجهل والعبودية، ورشاشات ضلت رصاصاتها ونيرانها طريقها، فأصابت صدر من احتمى بها برصاصة يحلم أن تكون ذات يوم لتحريره وتحرير مقدساته وربما كانت مقتطعة من ثمن علاج أمه وأبيه وأطفاله، والفاجعة هذه المرة أن النيران لم تكن نيران صديقة لأنها تقصد روحه وأطرافه وأعضاءه التناسلية وغير التناسلية بكل تفاصيلها، وبكل أسف لا يقرأ زعماء الشطرنج ولعبة الكراسي أحداث التاريخ وأبجديات الخلود في سفر التاريخ البشري.
هناك قامة سياسية شامخة هي شارل ديغول الجنرال الفرنسي المنتصر في الحرب العالمية الثانية، ومؤسس الجمهورية الخامسة عام 1955 والمستمرة حتى الآن، والذي جدد له الشعب الفرنسي عام 1965 بما يشبه الإجماع. لكنه في عام 1968 وإثر مظاهرات طلابية عرفت بـ «أحداث مايو(أيار) 1968».وفي 24 من ذلك الأَيّار، أعلن رئيس الجمهورية الجنرال شارل ديغول عن إجراء استفتاءٍ في الشهر اللاحق حول إصلاحات جامعية واجتماعية واقتصادية. في الثلاثين من أيار عاد فأَجّل موعد الاستفتاء بناءً على اقتراح رئيس وزرائه جورج پومپيدو، لمصادفة الفترة مع الانتخابات النيابية اللاحقة. وجرت الانتخابات وتتالت الانهماكات السياسية، إلى أن عَيَّن الجنرال ديغول موعد الاستفتاء في 27نيسان 1969، حول إصلاحات في مجلس النواب وبعض الإصلاحات التشريعية الأُخرى، وَفْقاً للمادة الحادية عشرة من الدستور الفرنسي. وصرّح ديغول أنه إن لم يَنَلْ موافقة الأكثرية من الشعب، سيستقيلُ من منصِبِه. ظنَّ الكثيرون يومها أنّ ديغول، بتصريحه ذاك، يلتَمِس العاطفة الشعبية لقبول اقتراحاته الإصلاحية من الشعب الذي كان يرى في ديغول مُنقِذَ فرنسا، وباني فرنسا الحديثة، ومؤسسَ الجمهورية الخامسة فيها. في اليوم التالي، 28 نيسان، كانت نتيجة الاستفتاء: 52.41% قالوا «لا»، و47.59% قالوا «نعم». وسقط الاستفتاء. وحبسَت فرنسا أنفاسَها لترى ما سيكون قرار مُنقِذ فرنسا شارل ديغول. بعد عشر دقائق من منتصف الليل، صدَرَ عن «كولومبيه لي دوزيغليز» بيانٌ موجَزٌ من سطرين، سمعَهُ الفرنسيون والعالم، جاء فيه حرفياً:»أُعلِنُ توَقُّفي عن مُمارسة مهامي رئيساً للجمهورية. يصبحُ هذا القرار نافذاً عند ظهر اليوم: 29 نيسان 1969?.كان ذلك صوتَ الجنرال شارل ديغول. وسادَ صمتٌ وَوُجومٌ في فرنسا والعالم. تولّى مَهامّ الرئاسة بالوكالة رئيسُ مَجلس الشعب آلان پوهير، وهيَّأَ انتخاباتٍ رئاسيةً جاءت إلى الإليزيه بِجورج پومپيدو خلفاً لشارل ديغول الذي حَكَمَ فرنسا عَشرَ سنواتٍ ذهبية، ولم يورّث للرئاسة ولا المنصب وراءه ابناً ولا صهراً ولا فرداً من عائلته أو حزبه أو مناصريه، ولم يسلم قيادات الجيش لعائلته المتوحشة ولَم يسعَ إلى التجديد ولا إلى التمديد.
انسحب الكبير شارل ديغول إلى دارته في «كولومبيه لي دوزيغليز»، يُمضي سنته الأخيرة من حياته في سكينةٍ وهدوء. وتُوُفِّيَ في السنة التالية (مساء 9 تشرين الثاني 1970) تاركاً وَصِيَّتَين: الأُولى ألاّ يحضرَ جنازتَهُ رؤساء ولا وزراء ولا سياسيون، والأُخرى ألاّ يُحفَرَ على قبره إلاّ ما يلي: «شارل ديغول 1890-1970».
صورة تختلف تماما لما عليه إصرار بعض زعماء جمهوريات العرب اليوم على الكرسي والسلطة ونصب التماثيل في الشوارع والميادين دون تأييد شعبي لهم ولا لسياساتهم، فأراقوا الدماء وشتتوا الأسر وعطلوا المسيرة الحضارية، وتناسوا أن الحب والولاء لا يؤخذ عنوة ولا غصبا من القلوب وأن تلك الشعوب ستهدم تلك التماثيل والنصب في أول عمل بعد انتصار ثوراتها وستشتمهم في وسائل الإعلام وستزيل أسماءهم وأحزابهم من الميادين العامة والمؤسسات وربما يحاكمونهم تحت قبة حاكموا شعوبهم فيها من قبل، زعماء لم يفهموا شعوبهم ولم يدركوا أن العرب في جيناتها من الأمم التي تقدر المعروف وحسن التعامل واحترام من يحسن إليهم ولو على حساب أنفسهم، ولا أدل على ذلك من تفانيهم في حب بعض الرؤساء العرب من أمثال جلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز والشيخ زايد أل نهيان والشيخ جابر الصباح وغيرهم، هؤلاء مدت شعوبهم أيديها بالمبايعة مختارين فصافحتهم بالمقابل يد مملوءة بالخير والنعمة والإنسانية وحب الطفولة، واحتضنتهم عيون تفيض بالدمع أمام أي موقف إنساني لمواطن ضعيف مغلوب على أمره فينتصرون له ولو من أنفسهم أو حاشيتهم، صافحتهم يد لم تتلطخ بدماء الشباب ولم تنحر الأطفال ولم تقطع أعضاءهم التناسلية في معتقلات من جهنم ولم يصبوا عليهم الحميم ولم يطعموهم الزقوم وطين الخبال، مسحوا على رؤوسهم بكفوف غمرتهم بالرغيف والدواء والفيء والماء الزلال، وأعطوا جنودهم وأجهزتهم الأمنية دروسا في الإنسانية، وحملوهم بأمانة شرف المهنية والعسكرية والدفاع عن الوطن والمواطن.
شيء مخيف وموجع حدا لا يوصف وأنت تراقب المقابر الجماعية لأفراد أمن في بعض الجمهوريات العربية تمت تصفيتهم وأيديهم مقيدة في الخلف، وربما كانت لهم وجهة نظر في هذه المواجهات لأنها غير وطنية ولا تحمل شرف المهنة، ولو أعطوهم فرصة للمناقشة والحوار لعاد الجنود وأولئك الثوار لبيوتهم معا دونما إراقة للدماء ودونما تهجير على الحدود في صورة تحكي تفاصيلها ذهنية الحاكم العربي حينما يتجرد من إنسانيته على طاولة الشطرنج التي فرشها ليتسلى وشعبه يصارع الويل والثبور والجوع والدمار، وكل حديثه عن النفط والألقاب والكتاب الذي تحول من أخضر إلى أحمر، وتجاهل الإنسان المرعوب أمام رئيس الاتحاد العالمي للشطرنج كيرسان اليومجينوف الذي لم يتحل هو أيضا بالروح الرياضية وهو في مقابلة دكتاتور وملك ملوك القارة السمراء، ولم يدرك الرسالة الإنسانية للرياضة عامة، والذي أستطيع أن أجزم به هو أن ذلك الروسي وغيره من المراقبين تضحك كل مشاعرهم وخلجات أنفسهم من هذا الزعيم وملك الملوك الإفريقية وهو يحرك قطع الشطرنج بطريقة عبثية أمام وسائل الإعلام، وربما كانت لعبة الشطرنج بتفاصيلها السياسية هي اللعبة الوحيدة التي تمجد الفكر السياسي والزعامة المبنية على الذكاء ومعرفة خبايا وأسرار سياسة الشعوب والمجتمعات، لعبة تعلم الحكام الذي يمارسونها أروع الطرق لكسب حب الجماهير، وأجمل السلوكيات للانتصار الحقيقي على الذات والأنا والألقاب والغطرسة، لعبة تعلم الحاكم أن هناك مهزوما ومنتصرا والعاقل الذي يحول هزيمته إلى نصر خالد وانسحابه من حياة ما إلى حياة أرحب وأكثر رقيا وتمدنا وضوءا؛ مثلما فعل ديجول وغيره من شرفاء التاريخ، لعبة تعطي صاحبها القدرة على ضبط أعصابه للوصول إلى اللحظة الحاسمة التي ضحّى فيها القادة من أجل خير شعوبهم، وتحول من أجلها الفرسان والنبلاء إلى منتجات إنسانية تستحضر كشاهد إنساني لما تكون عليه المآلات والنتائج؛ لأن طريق العناد والبطش لا يورث التنمية، ولا يولد الاستقرار، إنما يؤدي إلى الاحتراب والاقتتال والمحاكمات في كفة ميزان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ياإلهي، حاكم يملك مزاجا للعب وشعبه يحترق، ولم يكن في تلك اللحظة إلا نيرون الذي أحرق روما وجلس يستمتع بمقطوعاته الموسيقية، والكارثة أنه ظهر مرتديا عباءة بنية اللون ونظارات شمس سوداء، حجبت عنه شعبه حتى لم يعد يفهمه تماما وبدت خلفه شاشة تبث برنامجا للتلفزيون يحمل تاريخ 12 مايو 2011. ولم يوضح التلفزيون من الذي فاز في نهاية الجولة. ولكن النتيجة الحقيقية صرخت بها ألسنة الجماهير العربية من وراء الشاشات: كش ملك... والله من وراء القصد
abnthani@hotmail.com