ربما كان من غير المعقول تصديق القول بأن دولة توصف بالكبرى وتفتقر مع ذلك إلى إستراتيجية. في التاريخ، صارت الدول كبرى لأن لها إستراتيجية كبرى. هكذا كان حال فرنسا وبريطانيا في القرون الثلاثة الماضية، وهذا كان حال الولايات المتحدة الأميركية في القرنين الماضيين، وبالعكس، عجزت
ألمانيا عن تطوير إستراتيجية كبرى ففشلت في أن تحتل مكانا تحت الشمس كدولة كبرى، وحتى عندما خاضت الحروب، فإن قصدها كان ردم الهوة بين قوتها المتقدمة وبين وضعها الإستراتيجي المتأخر، بينما خاض أعداؤها حروبهم ضدها للحفاظ على هذه الهوة، ولتعزيزها ومنعها من الخروج منها، وهو ما حدث، فألمانيا الحالية ليس لديها رؤية إستراتيجية يمكن أن تضعها بين القوى العظمى، مع أنها قوة اقتصادية عظمى بامتياز.
هناك دول كانت عظمى أطاحت إستراتيجياتها بمكانتها وجعلتها تنحدر إلى مراتب أدنى في الداخل والخارج، ففقدت طابعها كدول عظمى وفقدت معه قدرتها على بلورة بدائل تخرجها من سوء حالها، مثلما هو حال روسيا، التي كانت قد وضعت في العصر السوفييتي أسس نهوضها من دولة متأخرة إلى دولة متقدمة احتلت مراتب متقدمة على صعيد بناها الموضوعية، حتى غدت مضرب الأمثال، لكنها فشلت مع ذلك في بلورة إستراتيجية كونية تمكنها من ترجمة قوتها الذاتية إلى وجود عالمي - دولي مؤثر ومقرر، يمكنها من إعادة إنتاج العلاقات بين الدول وفق حاجاتها أو مصالحها، سواء عن طريق نشر شبكة مصالح عليا تغطي مجالا كونيا واسعا يتخطى مجالها القومي الخاص، تراعي الدول الآثار الناجمة عنه في رسم سياساتها وتحديد خياراتها، سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية، أو من خلال العلاقات المباشرة بينها وبين بقية دول العالم، حيث يخطب الآخرون ودها إما لأنهم يحتاجون إليها من أجل تنمية أنفسهم، أو لأنها تستطيع حمايتهم من خصومهم... الخ.
لكن الاتحاد السوفييتي لم ينجح بدوره في تطوير إستراتيجية كونية مقابلة لإستراتيجية القوة العظمى المقابلة: الولايات المتحدة الأميركية، التي نشرت خلال نيف وقرن نفوذها ووجودها على مناطق متزايدة الاتساع من العالم، وأقامت منظومات سياسية وعسكرية واقتصادية شاملة غطت الكون بأسره، برا وبحرا وجوا، وحولت واشنطن إلى مركز يحكم قبضته على العالم أو على معظمه، ويفرض عليه خيارات تخدم أميركا قبل غيرها، ويتيح لها التدخل في شؤونه بالطريقة التي تحلو لها في أحيان كثيرة. لم يحقق السوفييت شيئا من هذا، رغم أنهم امتلكوا أيديولوجية مغرية، وسياسة بدت مؤيدة لطموحات الشعوب والأم الناهضة والمتحررة حديثا من الاستعمار، وقدموا أنموذجا جذابا من التنمية والقوة القومية، وامتلكوا جيشاً جباراً مزوداً بأشد الأسلحة فتكاً، واقتصاداً متنوعاً وقيادة مركزية لا راد في الداخل لقراراتها ولا اعتراض عليها. ترى، هل كان وضعهم الداخلي السبب في افتقارهم إلى رؤية كونية تتيح لهم الانفراد في العالم وتوطيد مواقعهم المتفوقة داخله، أم أن هذا السبب رجع إلى سياسات الاختراق التي اتبعوها في شتى البلدان وقامت على التحالف مع مجموعات حزبية أو سلطوية داخلها تم عن طريقها اختراق المجتمع والدولة، والعمل على تغيير نظامها بطرق شتى، خرج معظمها عن أية اعتبارات أو مصالح بينها وبين الدول المعنية؟. أم أن الأمر عاد إلى سياسات القوة المقابلة، التي كان لديها موارد متفوقة، وانتشارا عالميا أوسع، وشبكات تواصل ومصالح أكثر تعقيدا وتداخلا مما خال السوفييت أو نجحوا في إقامته ؟. مهما يكن من أمر، فإن قصر الإستراتيجية السوفييتية على نشر الثورة في العالم، وتمرير قسم كبير من سياسات موسكو بهذه النافذة الضيقة من العلاقات الدولية، التي كثيرا ما أقامت تناقضا بين علاقات السوفييت مع الحكومات القائمة وعلاقاتهم مع المعارضة الداخلية الانقلابية، التي حظيت بدعمهم، كانت له نتائج مدمرة على علاقات السوفييت مع السلطات القائمة، وبالتالي على مصالحهم الاقتصادية ومركزهم السياسي وتأثيرهم الأيديولوجي وانتشارهم العسكري. وبما أن حال العالم الفقير بوجه خاص، الذي وجه السوفييت جهودهم إليه، لاعتقادهم بسهولة دفعه إلى الثورة والتغيير، كانت أكثر تشابكا وغموضا مما تضمنته إستراتيجيتهم، فإنهم تخبطوا بين رؤى ومنظورات مختلفة كانت تتبدل بسرعة، انتهت بهم إلى ما يشبه ضياع الرشد، وأفقدت سياساتهم أبعادها الإستراتيجية أكثر فأكثر وأغرقتهم في سياسات تكتيكية الطابع، متقطعة الأنفاس، تقلبت وتبدلت من بلد لآخر ومن حالة لأخرى، حتى صارت لغزا يصعب تفسيره أو فك رموزه، وصار من الصعب معرفتها أو التنبؤ بمسارها ومحدداتها، وتخبطت بين مثل سياسية عليا متضاربة تارة، وطورا بين مصالح اقتصادية صغيرة وتافهة، بينما بدا أنها تصحح أخطاءها من خلال معونات اقتصادية سخية لم تترك أثرا يذكر على خيارات من تلقوها، مما نشر قدرا من الفوضى داخل سياساتهم وفي العالم، انتهى مع سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي قدم خدمات كثيرة للشعوب الأخرى، في كل مكان كانت سياساته صائبة فيه، أو بالأصح خلال الحقبة التي كانت سياساته صائبة خلالها.
واليوم، وقد ورثت روسيا الاتحادية النظام السوفييتي السابق، نجد أن هذا التناقض بين عظمة القوة الموضوعية وتهافت القوة السياسية والدولية قد تراجع، لسبب رئيس هو أن القوة الموضوعية نفسها تهافتت وتراجعت، وتراجع معها ما كان إيجابيا ومفيدا في سياسة السوفييت، وتحولت إلى عمليات بيع وشراء غالبا ما تكون بازارات رخيصة، تدور حول صفقة سلاح هنا وصفقة سلاح هناك، وتعارض في البداية سياسات دول الغرب ليس لأنها ضدها، بل من أجل أن يقدم لها ترضية من خلال بعض العقود أو المال أو الخدمات، فتنقلب عندئذ رأسا على عقب، وتؤيد ما كانت تعارضه، أو تعارض ما كانت تؤيده،وهكذا دواليك. المشكلة أن هذه اللعبة المكشوفة ما زالت تنطلي على بعض من يواجههم الغرب أو يواجهونه، ممن يظنون أن موسكو تؤيدهم وأنها سند دولي حقيقي لهم، متجاهلين تجاربها مع العالم، وتقلبات سياساتها مع تقلبات مصالحها المادية، التافهة والصغيرة معظم الأحيان. حدث هذا في ليبيا، حيث عارضت قرار مجلس الأمن حول حماية المدنيين من حاكمهم المجرم، وأعلنت أن موقفها مبدئي ولا يمكن الرجوع عنه، ثم ما هي إلا أسابيع معدودة حتى غيرت موقفها وسارعت إلى إرسال مبعوث خاص إلى ليبيا، لا ليزور معمر القذافي، بل إلى عدوه الثائر عليه: المجلس الانتقالي في بنغازي، الذي يوشك أن يطبق عليه في طرابلس، لذلك هرولت موسكو إليه مؤيدة مهلهلة، وأعلنت أن أيام القذافي قد انتهت في الحكم، وأنه غير شرعي، وأن المجلس هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب الليبي. هكذا دون تردد أو خجل. ماذا يقول الأخ معمر الآن ؟. إنه على الأغلب يقول ما سيقوله غير من الحكام العرب، الذين يتوهمون أن موسكو تشكل بديلا لواشنطن بوسعه حمايتهم، سيمتنع عن بيعهم في أقرب مزاد دولي أو صفقة مالية!.
ليس لروسيا إستراتيجية كبرى تجعل منها دولة كبرى. وليس في حساباتها محل لصراع من أجل النفوذ والوجود خارج دائرتها السوفييتية المباشرة، التي كثيرا ما عجزت عن الحفاظ على وجودها ونفوذها فيها. فهل يصح الرهان عليها في صراع جدي مع الغرب، والاعتماد على موقفها في أية مواجهة دولية؟. اعتقد أن الجواب عند ليبيا، التي باع الروس نظامها بثلاثين من الفضة، وسيبيعون غيرها مثلما باعوها، عند أول عرض مغر.
لم تعد روسيا قوى عظمى بأي معيار، ولا يبذل حكامها أي جهد لجعلها قوة كهذه. لذلك سيخسر كل من يراهن عليها، مثلما خسر الأخ معمر، الذي كان الأخير، لكنه ليس بالتأكيد آخر الخاسرين!.
kilo.michel@gmail.com