أصبح السودان سودانين بقرار من الحكومة السودانية في الشمال ورغبة لدى أهالي الجنوب، وهو حدث محزن حقاً لأن الألفة دائماً خير من التفرق، لكنها إرادة الله أولاً، ثم تراكم أخطاء وعوامل داخلية وخارجية رافقت السودان منذ استقلاله.
لقد كان هناك ترسيم لحدود شمال السودان وجنوبه منذ عام 1956م، وكانت هناك جملة من الأخطاء والمؤتمرات أدت إلى نتيجة محزنة ولا ريب، فاقتطاع ستمائة ألف كيلو متر من أرض السودان مع شعب كريم وثروة طائلة ليس بالأمر اليسير، لكنه أمر تم بالاختيار بعد الشقاق والحروب والتدخلات الإقليمية والخارجية، كانت تصب في معظمها لمزيد من الانفصال بدل الوحدة. وكان ما كان بعد توقيع اتفاقية نيفاشا، والتي حددت ست سنوات يكون بعدها الاستفتاء على أمل أن يتم خلالها الوصول إلى حلول لمشكلات عالقة، لكن من المؤسف حقاً أن السنوات الست المحددة انتهت دون حلول ملموسة، مما ترك حملاً ثقيلاً على السودان في الشمال لأنه وضع السلاح وجنح للسلم على أمل الخلاص من الحرب، راجياً أن يتحقق له مراده.لقد بنيت تلك الاتفاقية على الأمل، ومفردات قابلة لأكثر من تفسير كما هو الحال في منطقة كردفان، ومنطقة أبيي والنفط، وكأن تلك الاتفاقية تقول الأمل في الوحدة أو اختيار تحقيق الانفصال أولاً ثم النظر في المشكلات العالقة، فذهب الأمل وبقي الواقع الذي سوف يواجهه السودان في الشمال راجين أن يكون واقع خير.وكتبتُ وما زلت أكتب وقلت وما زلت أقول إن الحدث غير المرغوب فيه لا يحدث فجأة، بل يكون غالباً وليد تراكمات من الهفوات المتتابعة، ومن ثم تؤدي إلى نتائج غير مرضية. لقد كان واقع السودان كذلك، وليست بصدد الحديث عنها لأن الظرف الزماني قد لا يسمح بذلك، فهناك جنوب يحتفل بالاستقلال وينضم إلى الأمم المتحدة، وهناك شمال ينظر فيما سيفعل بعد اقتطاع جزء منه مع خمسة وسبعين في المائة من المخزون النفطي الذي كان يمثل نسبة كيبرة من ميزانيته ومصدراً رئيسياً لعملاته الصعبة، وتركيبة سودانية تحتاج إلى مزيد من الحكمة والعمل الجاد الدؤوب.عندما لا يتجاوز الطالب الامتحان فليس مرد ذلك إلى صعوبة في الأسئلة، أو عدم قدرة على الفهم، لكن لأن الطالب قد أهمل في أسابيع مضت ثم أراد أن يلملم ما يستطيع في آخر الأيام، فلا يستطيع، فتخرج نتيجته على غير ما يرتضيه.وعندما يترك شعب معين المشقة والعناء، والاجتهاد والبناء، في أي بقعة من العالم، فلابد أن يدفع ضريبة ذلك التهاون، وشواهد ذلك عبر التاريخ كثيرة.وحتى الدول الكبرى ليست استثناء من القاعدة، فقد تراكمت الديون على الولايات المتحدة الأمريكية حتى أصبحت تساوي إجمالي الإنتاج الوطني مما ينذر بالخطر، وأصبحت أكبر دولة مدينة في العالم مع أاقتصادها أكبر اقتصاد في العالم، لكن التمادي في ذلك سيكون له عواقب وخيمة. ونرى مآلاً آخر في منطقة اليورو، فعندما لم تطبق المعايير الأوروبية بدقة في اليونان وصلت ديونها إلى ثلاثمائة وأربعين مليار دولار، وكادت أن تعجز عن التسديد لولا تدخل أشقائها الأقوياء، لكنه تدخل مشروط يضمن عودة المال إلى أصحابه، ويمنع اقتصاد اليونان من الإنهيار. وكان ذلك الأمر في إيرلندا، والبرتغال وبوادر أزمة في إيطاليا وإسبانيا.نعود لنقول إن السودان عزيز على الجميع وانفصال جزء منه مؤسف حقاً، لكنها رغبة قيادة في الشمال ورغبة شعب في الجنوب، وأن يكون ما حدث عبرة. إنه حدث الانفصال الأول وليس الاحتلال - الأول في تاريخ عالمنا العربي، راجين ألا يتبعه غيره، متمنين للدولتين التوفيق والنجاح والوئام والانصراف إلى البناء الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.