الماء ذلك السائل الذي يعتبر أهم عنصر في حياة جميع الكائنات، جعله الله سهلاً ميسّرا، ورخيصاً مشاعاً، فالماء والكلأ وهما قوام حياة الإنسان، وما شيته، تمنع شريعة الإسلام احتكارهما أو التحكم فيهما، حيث يسرهما الله رحمة منه بمخلوقاته، يقول عزَّ وجلَّ: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (المؤمنون الآيات 18 - 19)،
إنه مع تساهل بعض الناس، من أعظم نِعم الله على الإنسان، وفضل أسبغه عليهم، لأن به استقامة أحوالهم وسعادتهم، وبالتساهل فيه وإهداره في الاستعمال، تحصل الويلات والمصائب لكل كائن حي.فالماء مع شدة الحاجة للإنسان خاصة، ولغيره عامة، والضرورة الملحة في طلبه، قد جعله الله سهلاً ميسّراً، فأنزله سبحانه من السماء بقدر معلوم، وحكمة وتدبير، فلا هو بالكثير فَيُغرق ويُفسد، ولا هو أقل فيكون الجدب والمحل، ليهاجر الناس وغيرهم من مخلوقات الله، ولا هو في غير أوانه فيذهب هدراً بلا فائدة، ولكنها حكمة الباري جلّ وعلا، الذي خلق الإنسان على وجه هذه الأرض، وسخّر له فيها ما تستقيم به حياته، ومصالحه واستقامة أحواله، وأهم عنصر فيها هو الماء، الذي بدونه تنعدم الحياة.والماء لا يستغني عنه الإنسان، فهو نظافة لبدنه ومنظِّف لملابسه وطعامه، ومهيئ لعبادته، فهو عند الفقهاء ثلاثة أنواع: طهور وطاهر ونجس، فأمّا الطهور: فهو الذي قوام العبادة عليه، عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر، ولا تصح الصلاة إلا برفع الحدث، وغسل ما في البدن والثوب والمصلى من نجاسة إن كان جاء شيء بالماء، ومن رأفة الله بعباده ،سواء في السفر أو الحضر مع وجود الأعذار، إذا لم يوجد الماء وحان وقت العبادة، أن يتيمم، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، وتخفيفه عنهم، وهي من الخمس التي أعطيت لرسول الله ولم تُعط لأحد من الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام فقال: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) وهذا من أهمية الصلاة في الإسلام.فكان هذا الماء اللذيذ في طعمه، النافع في مصالحه العديدة، الغالي في أثره وعند فقده، إلا أنه رخيص عند توفره، إذ أصدق وصف للماء ما قالته العرب: بأنه أرخص موجود، وأغلى مفقود، فهو في وفرته وجريانه، رخيص عند الناس فيسرفون في الانتفاع به، ولكنه عند الشُّح، وخاصة في القفار النائية، تكبر مكانته، ويعلو قدره في النفوس، لأن الحياة تتوقف على القليل منه، ويبذل الفرد في سبيل الشربة الواحدة، التي يبتلّ بها ظمأ العطشان، لترتوي منها عروقه، فيبذل في ذلك الغالي والنفيس،إذ يروى في كتب النوادر: أن أحد العلماء كان في مجلس هارون الرشيد يسامره، ويتحدّث إليه، فطلب الرشيد كأس ماء ليشرب، فلما أُحضر إليه تناوله، ورفعه لفمه ليشرب فقال له العالم: على مهلك يا أمير المؤمنين، فتوقّف ليستطلع الأمر، فقال له: بم تشتري هذا الماء لو مُنِعتربه؟ قال الرشيد: بنصف ملكي. قال العالم: إذاً اشربه هنيئاً مريئاً.ثم طال بهم المجلس فقام الرشيد ليريق الماء، ففطن العالم للأمر، وأراد أن يعظه بما يقرّب الأمر إلى نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين على رسلك، فوقف فقال له العالم: يا أمير المؤمنين لو حُبس بولك عن الخروج، فبكم تشتري ذلك؟ قال: بنصف ملكي فقال العالم: اذهب راشداً عافاك الله.فلما رجع الرشيد، وجلس في مكانه، التفت إليه قائلاً: ملك تبيع نصفه بشربة ماء، ونصفه الآخر بإخراج هذه الشربة، خير منه يا أمير المؤمنين، شكر الله عزَّ وجلَّ، وأداء حقه سبحانه بكثرة العبادة وعدم التقاتل عليه.. هذا جانب وجانب آخر، فيجب عدم الإسراف في الماء وتبذيره في الوضوء والغسل لأن رسول الله نهى عن ذلك، وعمله قدوة.إن إدراك المسلم بعض ما أنعم الله عليه، ومن تلك النعم الكثيرة الماء بفوائده، وما فيه من مصالح تستقيم به حياته، فالأطباء يرون أن الطعام لكي ينهضم لابد من الماء، ولكي يُعطي المرونة في الانسياب، بالجهاز الهضمي، من الفم دخولاً إلى فتحتي الخارج من السبيلين، لابد من الماء، وعندما يهجم الصيف بارتفاع درجة حرارته، لا يبرّده إلا الماء، الذي يزداد استهلاكه.بل إن أساس تركيب الجسم الماء، الذي يأخذ نسبة كبيرة من حجم أي نوع من أنواع الطعام، والإفرازات التي هيأها الله في داخل الجسم، لتساعد الطعام على الذوبان، وتحلل أجزاءه إلى أساسياتها، المفيدة للجسم، من فيتامينات، ودهون ومواد أخرى، كلها وبكميات عالية، يدخل في تركيبها الماء، والإفرازات الضارة الخارجة من الجسم: من أملاح بالعرق، وسموم بالخارج من السبيلين، وغير ذلك.. كلها قد هيأ الله لها الماء، لينقلها وينظف الجسم منها، مثلما كان هو الناقل للنافع منها، والمفيد للجسم في توزيع غذائه، وإعطاء أعضائه والليونة في الجسم وعضلاته.ومن هنا نلمس حرص الأطباء على النصح والإرشاد بتناول كميات كبيرة من الماء، أو السوائل، حتى لا تزداد الأملاح في الكليتين، ولا تصاب طبيعة الإنسان باليبوسة، ولا تتأثر أجزاء الجسم المختلفة بالجفاف، وخاصة عند الأطفال، مع نقصان السوائل، حيث ينتج عن ذلك مخاطركثيرة، يبرز للأطباء أعراض تصاحب الأمراض. ذلك أن عناية الله أحاطت هذا المخلوق البشري بوسائل عديدة من المحافظة والإحاطة، قد لا يدري أنواعها غالب البشر، لاعتبارهم ذلك شيئاً عادياً في حياتهم، ولا يربطون ذلك بالحكمة من تنوّع المحاصيل الزراعية، لكل نعوقت معين، والعاقل هو من يدقق ليعرف السبب، ويتمعّن ليؤدي الشكر لله جلّ وعلا: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} (النحل 53). وما دعاء رسول الله عندما يفطر من صيامه، إلا نظرة عميقة في ربط السبب بالمسبب، وإدراكٌ لفضل الله على عباده، فهو يقول: كما جاء في زيادة ابن عمر: (ذهب الظمأ وابتلت العروق، وأُثبت الأجر، إن شاء الله)، حديث رواه النسائي وأبو داود والحاكم وغيرهم، وكانت سُنته صلى الله عليه وسلم أن يفطر على رطب قبل ان يصلي، فإن لم تكن رطباً فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء، كما روى الخمسة، أن رسول الله قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور)، حديث حسن صحيح.فالرسول بهذا يحس بدوافع البشر، ومشاعرهم ليرسم بقدوته، منهج الشكر في الدستور العملي للناس وعلاقتهم بخالقهم، ولأهمية الماء في حياة الإنسان، فإنه يُطلق على المناطق التي لا ماء فيها كلمة: عديمة الحياة، أو لا مظهر فيها من مظاهر الحياة.وقد ورد ذكر الماء في كتاب الله الكريم (63) مرة، حيث جعل جلَّ وعلا من الماء كل شيء حي للبشر وغيرهم، فقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء 30)، وهذه حقيقة علميّة يجب أن ترسخ في أذهان البشر عموماً، والمسلمين بصفة خاصة، حيث سبقت ما يعده بعض علمائهم اكتشافاً علمياً في معهودهم، أما في الشرع فهي حقيقة، وثابتة، وعند دارون وسلامة موسى وأحمد لطفي فهي نظرية، والحقيقة ضد النظرية وبعض علماء الانثربيولوجيا، في بلاد الغرب، في مبدأ تراجعهم عن تلك النظرية قالوا: إن الماء هو مهد الحضارة الأولى.فهذه الآية ترسّخ قدرة الله جلّ وعلا، التي اقتضت إرادته جعل الماء أساس الحياة، في كل كائن حي، قبل أن يكون للبشر وجود على وجه الأرض، وهو سبحانه على كل شيء قدير، وهو سبحانه الموجد للماء من العدم {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس 82)، ثم قرر في آية أخرى، ما يؤصّل هذا المفهوم، كما في سورة النور {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} (النور 45)، حيث يقول صاحب الظلال: وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة، حقيقة أن كل دابة خُلقت من ماء، قد تعني وحدة العنصر الأساسي، في تركيب الأحياء جميعاً، وهو الماء، وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته، من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلاً في اماء، ثم تنوّعت الأنواع، وتفرّعت الأجناس، وبيّن سبحانه في المبدأ أن عرشه جلَّ وعلا على الماء. ولكننا على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة، على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل، لا نزيد على هذه الإشارة، شيئاً من أن الله خلق الأحياء كلها من الماء، فهي ذات أصل واحد، كما تدل الحقيقة القرآنية، وكما نرى بالعين، فهي متنوّعة الأشكال: منها الزواحف، تمشي على بطنها، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين، ومنها الحيوان يدبّ على أربع، كل ذلك وفق سنة الله ومشيئته، لا عن فلتةٍ ولا مصادفة، فهو سبحانه {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، وهو القادر على كل شيء.فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون، قد اقتضتها مشيئة الله وإرادته المطلقة، فسبحانه ما أحكم صنعه، وما أعظم تقديره وتدبيره، ألا ترى أن القدرة البشرية، في اكتشافات الأجرام السماوية، قد توقفت عند القدرة على الحياة، لعدم اليقين بوجود الماء، الذي هو سرّ الحياة وعمودها الفقري.