الرياض ـ خاص ـ بـ»الجزيرة»:
الركود الاقتصادي من أخطر المشكلات التي عانى منها الاقتصاد العالمي، ونظراً إلى أن البلاد الإسلامية عضو في المجتمع الدولي، لم تنج هي الأخرى من الركود الاقتصادي، وقد كثرت الكتابات حول طبيعة وأبعاد المشكلة وطرق الوقاية والعلاج منها .. فبعضهم يرى أن السبب الرئيس للركود الاقتصادي هو نقص الطلب الفعال، ويرى آخرون أن من مظاهر الركود زيادة المخزون من السلع، والبضائع وعدم وفاء التجار بالتزاماتهم المالية، إضافة إلى إحجام المؤسسات المالية عن منح التمويل المطلوب للأنشطة الاقتصادية، ويضيف آخرون أن السبب الرئيس للركود الاقتصادي هو مانشاهده من الأحداث العالمية الحالية .. وتبعاً لذلك فقد طرح عدد من العلماء والمفكرين الاقتصاديين عدداً من الحلول لمواجهة هذا الركود، بيد أن العلماء المسلمين في الشأن الاقتصادي أكدوا أن الحل الأمثل لهذا الأمر يكون من خلال التزام التجار والأغنياء من المسلمين بالوفاء بزكاة أموالهم، مما سيكون له أثره الكبير والفاعل في مواجهة أي ركود اقتصادي، المختصون في الفقه والاقتصاد الإسلامي لهم رؤيتهم حول دور الزكاة في علاج الركود الاقتصادي؟
منظور الاقتصاد الإسلامي
بداية يقول الدكتور زيد بن محمد الرماني المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية : الاقتصاد قوة الدول والشعوب، لاسيما في هذا العصر الذي أضحت فيه بعض الأمم رهينة المادة، بل تعتبرها الفاصل بين التقدم والتخلف. ومن هنا احتلت الدراسات الاقتصادية مركز الصدارة، وشغلت اهتمام رجال السياسة والمال وعلماء الاجتماع والاقتصاد.
والإسلام في مجال المعاملات الاقتصادية حافلٌ بالقواعد والضوابط المنظمة لكل من المستهلك والمنتج والسوق والنشاط الاقتصادي. هكذا كان الاقتصاد الإسلامي قادراً على حل المشكلات الاقتصادية لما يتمتع به من خصائص ومقومات غير متحققة في غيره.
وهذا ما شهد به الاقتصاديون والمفكرون الغربيون أنفسهم، منهم على سبيل المثال: أستاذ الاقتصاد الفرنسي جاك أوستري الذي يؤكد في كتابه ((الإسلام والتنمية الاقتصادية)) أنَّ طرق الإنماء الاقتصادي ليست محصورة بين الاقتصاديين المعروفين الرأسمالي والاشتراكي بل هناك اقتصاد ثالث راجح هو الاقتصاد الإسلامي الذي سيسود المستقبل. لأنه ـ على حد تعبير أوستري ـ أسلوبٌ كامل للحياة، يحقق المزايا ويتجنِّب كافة المساوئ. ذلك أنَّ الإسلام هو نظام الحياة والأخلاق الرفيعة، وهاتان الوجهتان مترابطتان لا تنفصلان أبداً, ويقول ليون روشي في كتابه ((ثلاثون عاماً في الإسلام)) لقد وجدت فيه - الإسلام - حلّ المسألتين الاجتماعية والاقتصادية اللتين تشغلان بال العالمُ طراً.
الأولى في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}الآية، فهذه أجمل المبادئ للتعاون الاجتماعي.
والثانية فرص الزكاة في مال كل ذي مال، بحيث يحق للدولة أن تستوفيها جبراً إذا امتنع الأغنياء عن دفعها طوعاً.
ويؤكِّد جاك أوستري هذه الحقيقة بقوله: إنَّ المسلمين لا يقبلون اقتصاداً علمانياً، فالاقتصاد الذي يستمد قوته من وحي القرآن يصبح بالضرورة اقتصاداً أخلاقياً. وهذه الأخلاق تقدر أن تعطي معنى جديداً لمفهوم القيمة أو تملأ الفراغ الذي ظهر نتيجة آلية التصنيع, أما البروفيسور الروسي وسلوزيجيريسكي فيقول: لقد أدهشتني النظم الاجتماعية والاقتصادية التي يقررِّها الإسلام وعلى الأخص الزكاة وتشريع المواريث وتحريم الرِّبا, ويؤكد هذا روجيه جارودي المفكر الفرنسي بقوله: إنَّ الاقتصاد الإسلامي الصادر عن مبادئ الإسلام هو نقيض النموذج الغربي الذي يكون فيه الإنتاج والاستهلاك معاً غاية بذاتها، أي إنتاج متزايد أكثر فأكثر، واستهلاك متزايد أسرع فأسرع، لأي شيء، مفيداً أو غير مفيد، دون نظر للمقاصد الإنسانية. إنّ الاقتصاد الإسلامي لا يخضع للآلياتَ العمياء، فهو متسق ومحكوم بغايات إنسانية ومقاصد إلهية مترابطة.
هذه بعض شهادات من باحثين ومفكرين واقتصاديين وعلماء غربيين، يشهدون بما شرعه الإسلام من عدالة اقتصادية واجتماعية.
إسهام الزكاة
ويضيف د. الرماني بأن الزكاة جزء من النظام المالي الخاص للأفراد في تنظيم تجارتهم وضبط أموالهم. كما تسهم الزكاة في حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والمالية للأفراد والمجتمعات. وتعتبر الزكاة أهم وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي في الحياة. وتسهم الزكاة في حل مشكلة البطالة وتشغيل عدد من العاطلين عن العمل , كما إنّ الزكاة تحتل مكاناً رئيساً في نظام الاقتصاد الإسلامي المتكامل، حيث تلبّي وظائف متعددة في علاج الركود الاقتصادي، وفي مجال العمل الخيري البناء، كما تلبّي حاجات أخرى عديدة, يقول الحاج أحمد الحبابي في كتابه «الإسلام المقارن»: «إنَّ إخراج الزكاة شكْرٌ لنعمة الغِنَى الذي أنعم الله به على المزكِّي؛ إِذِ الشكر ـ كما قيل ـ صرْفُ العبد جميعَ ما أنعم الله به من النعم، واستعمالها فيما وُضِعتْ له».
إنَّ شكر نعمة الله ـ سبحانه ـ يكون بأمور، منها امتثال أمْرِ الله في المال بإخراج جزء منه إلى الفقراء والمساكين؛ رحمةً بهم وتعطُّفًا عليهم، ومَن لم يشكر النِّعَم فقد تعرَّض لزوالها, وإذا عَلِم الفقراء أنَّ الرجل الغني يَصْرف إليهم بعض ماله، وأنَّه كلَّما كان مالُه أكثر كان الذي يصْرفه إليهم من ذلك المال أكثر ـ أمَدُّوه بالدُّعاء، وللقلوب آثار، وللأرواح حَرارة، فصارَتْ تلك الدعواتُ سببًا لبقاء ذلك المزكِّي في الخير والخصْب, وما ضاع الفقراء وجاعوا، وما قضَتْ عليهم الأمراض والأوباء، إلاَّ بمنع الأغنياء زَكواتِ أموالهم عنْهم، كما ورد عن عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قوله: «ما جاع فقير إلا بما منَع غَنِي», ولَمَّا كان الأغنياء يُخرِجون زكوات أموالهم في أزمان ماضية، قلَّ الفقر عندهم حتَّى كان بعض الأغنياء لا يَجِدون مَن يقبضها ـ أيْ: الزكاة ـ منهم؛ فقد أغناهم الله ـ تعالى ـ من فضله.
يقول الحاج الحبابي في كتابه السابق: «إنَّ الزكاة تُدخِل نشاطًا فكريًّا وعقليًّا على المُعطي والمعطَى، وبالتالي يحصل لهما قوَّة بدنية، وحصانة شخصية بها يَزُول الفقر والمرض والجوع», وحينما كان الأغنياء يؤَدُّون زكاة أموالهم عن اقتناع وإيمان، كانوا يُحسُّون بأنَّهم يؤدُّون فريضة الأمْن والاستقرار؛ إذ صار الناس بين غنيٍّ غير مُحتاج، وفقير أخَذَ حقَّه من مال الغني، ولم يَبق له عذْر في السرقة، فإذا سرَقَ فإنَّما هو جَشِعٌ غير قَنُوع، من حق الدَّولة إذْ ذاك أن تؤدِّبه بقَطْع يده التي مدَّها للسرقة, وقد رأى بعض العلماء والباحثين ضرورة إضافة بعض التطبيقات المعاصرة فيما يتعلق بمصارف الزكاة، من حيث دفع الزكاة لأصحاب الدخل المحدود الذين لا يكفيهم دخلهم سواء أكانوا عمالاً أم موظفين أم مستخدمين.
كما يمكن قضاء دين الميّت من الزكاة باعتبار صاحبه من الغارمين، إذا لم يكن في ميراثه ما يفي بذلك، ولم يسدّد ورثته عنه، وفي ذلك أمان لأصحاب الديون، ودعم للتكافل الاجتماعي وحث على القرض الحسن الذي يطمئن صاحبه إلى سداده من المدين. ومن السبل المهمة في هذا الزمان ما يتعلق بمشكلات الشباب وخاصة العزّاب، فيا حبذا أن تسهم الزكاة في حل تلك المشكلات ومعالجة أوضاع أولئك الشباب، من خلال المشاركة في مشاريع الزواج وإعفاف الشباب والبنات غير القادرين على نفقات الزواج.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك مسائل غاية في الأهمية تتصل بالزكاة ومصارفها وأموالها في حاجة إلى بحث ومدارسة من قبل العلماء والفقهاء والمهتمين والباحثين , ومن ذلك: حالة الموظفين العاملين على جباية الزكاة وصرفها وتوزيعها، كيف يعامل هؤلاء على ضوء أنظمة العمل والقوانين المنظمة للعمال والموظفين, وكذا ضرورة الاستعانة بالخبراء الاجتماعيين لمعرفة الفقراء والمساكين ودراسة أحوال الغارمين والمؤلفة قلوبهم وأبناء السبيل وأوجه ((في سبيل الله)), إضافة إلى حاجة مؤسسات الزكاة إلى التقنيات الحديثة لتطبيق الزكاة، واستخدام أجهزة الحواسيب، والمستودعات لحفظ أموال الزكوات, كما أن هناك أموال الزكاة الواقعة في الفترة بين الجباية والصرف، هل يمكن استثمارها، أم توضع أمانات مجمّدة؟ وما مدى الحاجة إلى لجنة شرعية مختصة كخبراء دائمين متفرغين، لحل المشاكل الطارئة ودراسة الصعوبات الناشئة في شؤون وأمور الزكاة؟
وسعياً وراء تحقيق الأهداف الشرعية للزكاة والمقاصد الربانية لفرضيتها والغايات السامية لتشريعها، فإنه ينبغي أن تقوم الزكاة بوظائفها من حيث معالجة مشكلة البطالة وظاهرة الفقر، بتأمين العمل للناس، وتوفير السبل أمام العمال والشباب، وتوفير العيش الكريم للناس، وحفظ الكرامة الإنسانية للأفراد، وتزويد الأسرة والأطفال بالقوت الضروري والغذاء اللازم، والمساهمة في الحركة الاقتصادية في الإنتاج والعطاء، والقضاء على منافذ الفساد والجريمة.
ويختم د. زيد الرماني حديثه قائلاً: إنَّ الإسلام في جوانبه وتعليماته وأحكامه لا يخلو من التقريرات الاقتصادية، والتي منها:
المال مال الله والناس مستخلفون فيه,الطرق المباحة للتصرف في المال محدَّدة شرعاً, تحصيل المال يكون بما يحلّ من الأسباب , السوق في الإسلام لها آداب وأحكام , الرِّبا محّرمٌ في الإسلام , الزكاة حق للفقراء والمساكين.
هكذا فإن الاقتصاد الإسلامي عبادة وطاعة وتكليف وأمانة، عالمنا المعاصر يتطلع إليه، إذ هو يخلو من عيوب الرأسمالية الفردية والاشتراكية المستبدة.
دور الزكاة في مكافحة الركود
أما الدكتورة هناء بنت عبدالعزيز المطوع أستاذ الفقه المساعد بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن فقد بدأت حديثها بقول ربنا - عز وجل-: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ويقول:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}،ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي يرحمه الله:(... وأمر تعالى بإخراج الوسط فلا يُظلم رب المال فيؤخذ العالي من ماله ـ إلا أن يختار هو ذلك ـ ولا يحل له أن يتيمم الخبيث ـ وهو الرديء من ماله ـ فيخرجه، ولا تبرأ بذلك ذمته إن كان فرضا ) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (... وإياك وكرائم أموالهم ) متفق عليه، وفي هذا المنهج القرآني والنبوي ( حدّ من تضخم الأموال عند الأغنياء وبأيدي التجار والمحترفين، كيلا تحصر الأموال في طائفة محدودة أو تكون دولة بين الأغنياء ) منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري ص 367، لأن الترخيص للغني بإمساك النفيس من ماله يحفزه أن يخرج الوسط من المال وهو طيب النفس، وهذا المال الوسط هو غالب أموال الناس، وهذه إحدى فوائد الزكاة التي تكفل حركة المال وتقاوم ركوده، مع إيماننا أن الله عز وجل حكيم في كل ما شرعه لنا، سواء علمنا هذه الحكمة أو جهلناها، قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.