كان عنوان مقالتي في الأسبوع الماضي «كل الفصول ربيع للصهاينة». وهذا العنوان مستوحى من تعبير «الربيع العربي»، الذي أصبح يقال عن الهبَّات الشعبية، التي قامت في عدد من الأقطار العربية ضد أنظمة ظلَّ قادتها المتحكِّمون عقوداً من الزمن يرتكبون أعمالاً سيئة ضد أوطانهم وغالبية مواطنيهم، وإن اختلفت درجات سوئهم. وقد أشرت -باختصار- في تلك المقالة إلى أمور تدل على ما جعلته عنواناً لها.
وكنت أعلم أن ما أشرت إليه قليل القليل. ولذلك قلت في ختام المقالة: «الأدلَّة على أن كل الفصول ربيع بالنسبة للصهاينة كثيرة وكثيرة جداً. على أن حَيِّز المقالة لا يتيح لكاتبها ذكر مزيد من تلك الأدلَّة».
وفي مقالة هذا اليوم محاولة للإجابة عن السؤال المطروح عنواناً لها.
ومن الواضح -لدى كاتب هذه السطور- أن السبب الرئيس، الذي أدَّى إلى هذا الوضع المؤلم هو علَّة باطنية في جسم أمتنا العربية أشار إلى مظهر من مظاهره شاعر النيل، حافظ إبراهيم، بقوله:
أنا لولا أن لي من أمَّتي
خاذلاً ما بتُّ أشكو النُّوَبا
أمة قد فَتَّ في ساعدها
بغضها الأهل وحب الغُرَبا
وهي -والأحداث تستهدفها-
تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها
أم بها صرف الليالي لعبا
وقد بدأت -فترة معايشة كاتب هذه السطور لها- تتجلَّى معالم علَّة أمتنا الباطنية بانفصال الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م. ذلك أنه كان ممن أعلنوا تأييدهم للانفصال قادة من حزب البعث، الذي تتصدَّر كلمة «وحدة» كلمات شعاره الثلاثي المشهور: وحدة.. حرية.. واشتراكية. ثم جاءت حرب 1967م لتكشف ما كان من «دَبَر تحت الوَبَر». وأتت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية مع الكيان الصهيوني. وكانت حرباً لها ما لها من عظمة، وفيها ما فيها من بطولات. وكان من مؤشرات العلة الباطنية لأمتنا أن تلك الجبهة بقيت وحدها تتحمل تكلفتها. ذلك أن الجبهات غير المصرية مع العدو الصهيوني بقيت -مع الأسف الشديد- أشبه ما تكون بالمتفرجة على ما يجري فقط. بل إن مما زاد الأسف أسفاً أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لم يقدموا على عمل نضالي في الأراضي الفلسطينية ضد المحتلين ليشدوا من عضد من كانوا في حرب استنزاف بطولية، ويقضّوا مضاجع المحتلين لوطنهم. وبدلاً من ذلك قام منهم من قام بأعمال كانت وبالاً على قضيتهم عالمياً؛ مثل اختطاف الطائرات المدنية؛ ولا سيما غير التابعة للكيان الصهيوني. ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل قامت قيادتهم غير الموفقة بممارسة أعمال، داخل الدولة الأردنية، أدَّت إلى مواجهة عسكرية دامية مع هذه الدولة، التي كان فيها من يُرجَّح تطلُّعهم إلى الإيقاع بهم. وكم كان يحز في نفس المرء؛ وهو يرى الفلسطيني يهرب من أتون تلك المواجهة العسكرية الكريهة إلى الأرض المحتلة بالصهاينة أعداء أمته!
ثم جاءت حرب 1973م ليبرهن المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية، في بدايتها، عظمته؛ مهارة وشجاعة. لكن نهاية تلك الحرب طمست آيات انتصارها الأول؛ وذلك بمشاريع كيسنجر المنسَّقة مع من يمكن أن يقال عنه: إنه كان يرى أن الأهم في تلك الحرب تحريك الوضع على جبهة بلاده مع الكيان الصهيوني، لا السعي إلى تحرير فلسطين من المحتلين، أو على الأقل تحرير ما احتله الصهاينة منها عام 1967م.
وفي الوقت الذي فقدت فيه أمتنا العربية شخصيات قيادية؛ مثل الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس هواري بومدين، قادرة على أن تقف صلبة ضد أيِّ مساس بأهم قضايا أمتنا في صراعها مع الكيان الصهيوني وصلت إلى مراكز القيادة في بعض الأقطار شخصيات هي الوبال عينه على هذه القضايا. لقد اتضح تفتح أزهار الربيع الصهيوني بنجاح الصهاينة الكبير بإخراج مصر -بكل ما لها من ثقل ومكانة- من مسرح المواجهة مع كيانهم المحتل وفق اتفاقية كامب ديفيد، التي وصفها أحد زعماء ذلك الكيان بأن أهميتها -بالنسبة لهم- لا تَقلُّ عن نجاحهم في إقامة دولتهم على أرض فلسطين عام 1948م. وتوالى ازدهار ذلك الربيع الصهيوني بإقدام الزعماء العرب على إنهاء ما كان أسلافهم من الزعماء يرفضونه من عدم السلام مع الدولة الصهيونية المحتلة لفلسطين. فمنهم من وقع اتفاقات سلام معها، ومنهم من أقام علاقات معها. وتبنَّى الجميع السلام معها خياراً إستراتيجياً. بل وتَغيَّرت مقاطعتها اقتصادياً إلى إقامة مشروعات اقتصادية معها. ووصلت دناءة قادة من الفلسطينيين أنفسهم إلى درجة بيع مواد البناء إلى ذلك الكيان ليقيم جدار الفصل العنصري فوق هذه الأرض.
ولقد ابتليت أقطار أمتنا بمحكَّمين منهم من ظَلَّ عقوداً ينهب ثرواتها بمختلف الطرق. ومنهم من لم يكتفوا بنهب تلك الثروات؛ بل زادوا على ذلك بارتكاب جرائم فظيعة بحق مواطنيهم. وإذا كان كثير من عامة الناس لم يكونوا يعرفون حجم ذلك النهب، ومدى فظاعة تلك الجرائم، فإن ما ظهر لهم -بعد الإطاحة بمن أطيح به منهم ومن هم -بعون الله- في طريق الإطاحة بهم- أوضح دليل على العلَّة الباطنية للأمة. وإن أمة يقودها أناس مثل هؤلاء النهابين والمجرمين، ويصل التبلُّد لدى شعوبها إلى درجة أن تتحمَّلهم نيراً على صدور المواطنين عقوداً من الزمن، لا بد أن تكون كل فصول أعدائها؛ وبخاصة الصهاينة، ربيعاً مستمر الازدهار. متى ينقلب ربيع أولئك الأعداء خريفاً قاتلاً لهم؟ الإجابة عن هذا السؤال يتضمنَّها قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.