هل هي في الهزيمة العربية المهينة أمام كيان إسرائيل أم أنها في انقشاع طبقة الجهل عن العقول العربية لأجيال ما بعد عهد التحرر والاستقلال؟ أم أن هذه الثورات التي صارت تهز أكثر من قطر عربي إنما جاءت حسب تخطيط أجنبي طويل الأجل ؟ لكن: هل يجوز طرح مثل هذه الأسئلة قبل طرح السؤال الأهم وهو هل نحن في أتون فوضى أم استيقاظ ؟
لاشك أن كل إنسان يتوق للحرية والاستقلال من الطغيان ولا يملك إزاء هذه الانتفاضات العربية إلا أن يدعمها ويساندها ضد أنظمة فاجأتنا بمدى تخلفها وحماقتها واستهانتها بالدم والروح التي كان الجهل والتخلف يتبرع بها فداء للقائد الملهم حتى ظهر من زعم أنه ملك الملوك وعميد الحكام العرب ليصف شعبه بالجرذان، أمام وصف كهذا تصبح الثورة من طبيعة الأمور التي لا تفاجئ أحداً، ولكن انتفاضة من دون فكر وتخطيط وتحديد أهداف وتنظيم يتحكم ويسيطر على الانفعالات التي لا يتنبأ أحد بمداها قد تؤدي إلى الفتنة والتمزق وربما إعادة الاستعمار الأجنبي، والمفجع المرعب في هذه الانتفاضات أنها تدعو إلى إسقاط النظام دون أن تعرف من يقود ومن يوجه وماهي الآليات والأدوات لهذا التغيير وما بعده، وقد شاهدنا في تونس ومصر سقوط النظام ولكن لم نر حتى اليوم إلا تسابق الطامعين في طبخ الحصى وبقي أنين الكادحين تعصره الفوضى في الأمن والغذاء والدواء وتهاوي الاقتصاد، فهل قدر هذه الأقطار العربية في أن تتزحزح عصابة لصالح عصابة أخرى، والثمن دم وأرواح الحالمين بالحرية والكرامة.
لقد كان الملك محمد السادس حكيما عندما حمى شعبه وبلاده من عدوى هذه الانتفاضات فعلا في حين كرر رئيس عربي مقولة الرئيس المصري المخلوع «خليهم يتسلوا» وما أمهله القدر فرصة للتشفي من خصمه المخلوع حتى عمت الانتفاضات بلاده، وبمنطق مختلف، انتظر البعض ما سمي بـ «ثورة حنين» في السعودية فصارت بعكس ما يشتهون واغتر آخرون في مملكة البحرين بحكمة وسعة بال الملك حمد فظنوه ضعفاً ليتفاجأ الجميع بأن مطالبهم مذهبية وطائفية ولا علاقة لها بالوطنية عندما نادوا بقيام جمهورية البحرين الإسلامية تماثلا بجمهورية إيران الإسلامية، في عنوان فاقع الوضوح للغباء والتبعية، وكل هذا جرى في فترة زمنية قصيرة جدا؛ ربما لا تتجاوز الشهر أو الشهرين في صورة معبرة بكل جلاء عن الفوضى التي انتابت بعض الأقطار العربية أنظمة وشعوبا، وكانت مواجهتها بالحكمة والعقل من قبل أنظمة وشعوب يسّرت لها العبور إلى بر الأمان على الأقل مؤقتا في حين واجهتها أنظمة وشعوب أخرى بطرق مختلفة أدخلت بلدانها إلى يومنا هذا في حالات من الاضطراب والقلاقل، ولا أحد يعرف أو يتنبأ إلى أين تتجه وتسير.
وما يمكن الإجماع عليه هو أن حالة الوطن العربي على المدى القصير متجهة إلى التغير حتما ولكن لا أحد يستطيع التأكيد إلى أين وكيف، بيد أن التغير الحقيقي سيكون على المدى المتوسط، وفي اتجاه باعث على التفاؤل والاطمئنان، فقد بات واضحا للجميع أن مستوى الوعي العام أصبح متقدما ومشجعا على الانخراط في دولة المؤسسات وحماية حقوق الأمة واستقلال الإرادة، ولم يعد الارتهان للحماية الخارجية مقنعا ولا موثوقا، وأصبح الاعتماد على النفس وحسن الإدارة هما الركن الأساسي لصناعة المجتمع المنتج باعتبار أن المجتمع المنتج هو الضامن بعد الله للأمن والاستقرار في ظل أداء الحقوق والواجبات بعدل وإنصاف.
وبين مؤسسة (مامت) الحقوقية المصرية التي أعلنت أنها دربت أكثر من عشرة آلاف شاب مصري بتمويل أمريكي على التظاهر والاعتصام وبين الثورة القومية التي صنعتها بريطانيا للعرب ضد الحكم العثماني، ونعرف اليوم نتائجها وكيف خلقت أقطاراً متناحرة عاجزة أمام كيان غاصب، نجد من عجائب القدر أن من كان يحذر من الانزلاق في تلك الفوضى يُنعت بالمتخلف والرجعي، وأخشى اليوم من أن يُنعت كل من يطالب بتوخي الحذر بنفس تلك النعوت السابقة، على أن التاريخ لا يعيد نفسه وإنما هي الأجيال التي تعيد تجاربها، ولكن بوعي مختلف من جيل لآخر، وهذا هو مبعث الأمل والتفاؤل.
hassam-alyemni@hotmail.com