حكت الحمامة!
بين البيُوت البائسة، وخلف ضباب تعتليه الشمس، رصَفتُ الحُزن مُتسَللًا صَوب قلبي المُتيم بهديلها..
دققت النظر بها هذا الصَباح، قبل أن ألمح الشوارع خاليةَ الوفاضْ , وقطيع الغنم نشطُ السَير, ولثغة الشحرور المُريبة، وخوار البقر وتناغم سرب الطيُور..
ما الذِي يجب أن تلتقطه نقرًا من بينَ يدِي، غير فتات خبزٍ حتى تفيضَ غيضًا وترحَل لأعشَاشٍ غافيةً على أطرافَ النخيل، تاركةً ملامح نِساء الحِي اللاتِي تلفعن بخمارهن, وبعضًا من نحيبها الذِي تسلق مواء القطط في حاوية قريبة من منزلٍ مُتهالك؟
كَانت تستطيع أن تسرد تاريخًا طويلاً عن أُمِ علِي, المرأة التِي مكثت على نسيج ضَيق بَطنته بأمل ألمها، وراحت تبتل فِي محرابٍ على أثر سجادة تلح في دعواتها، خلفها الفلاح أبوعليّ وقهوته الجانبية وقت الظهيّرة، يليه سعفٌ متيبس يتخلخل أصابع صبيانية عليّ ترقُب النوافذ محطات, وتقاسم السماء مُكابدة الحياة, تشقُ قلبها منكسرة, تُحلق عاليًا ثُم تعود إلى يدي قبل أن تزور صومعتها الصغيرة وكأنها تلوح لي فاجعة موتَ!
أتذكر أن رفيقي «محمد» أخبرنِي بأن المرض وفيّ لهذه القريّة, يضِل طريقَ بيتهِ ولا يجد سبيلًا إلا أن ينام على جسد أحد.
مزقتُ تفاصِيل هذا الشُرود بداخلِي، ومضَيت قبل المسجد بخطوات، وبعد مجلس الفقير «سعدون» الأحدب أتعرف على ملامح المّارين!
يَالله.. أهذه هند؟ أهذه الصَغيرة مريم ذات الضَفيرة الشَقراء، والقامة القصَيرة التِي تتوالى بين كتفِي والدَها
أبا عليّ الآن؟
يقف خلفَ السّاقية قُرب الجدول جاهل ما يرقب, كسَتهم أعينٌ شحيحة الفرح, تلهُو خلفها كل المعاني الهزيلة أعمارهُم ما بين السادس والسابع ربيعًا، يرمقون حائط الإشفاق والانتظار على نوافذ البيت الطِيني وبساط بائع الخُضار أبا ناصر
تنادى منارة المُؤذن: الله أكبر.. الله أكبر
اتجهنا بين الحُقول الصغيرة نلقِي السلام خلف السكك البسيطة, نلبي النداء
عُدت لمنزل أبا علِي ذا الرونق الحَزين على زوجته المريضَة، أطيِل رقبتِي خلف السِتار كأني متطفل سائل، أنتظر أمِي أن تخرج بين حشد النساء
- جادلت علِي بشقاوة: كيف هِي أيامك؟
- رد بعنفوان: أصبحت رجلًا زرعتُ شعرًا فوقَ شفتِي أنظر
- نفضت رأسه بضحكات متقطعة
أنصرف الجميع من فوهة المنزل, وشققت أنا الدَرب إلى بيتيّ، رُبما أمِي ستطيل المُكوث, وما إن أدرت كتفِي حتى اعتلت صرخات نسوةٍ تناثرت دموعُهم فوقَ قامة أبا علِي
انحنى يحمَل الصغيرةُ هند, كسي وجهه الجهل! واتجه ليلقِي رأسه على زاوية, يخرج عوالق «عصَيان القدر», حتى أمتلأ فمه بالكلام الذِي آخرس ثقله وراح يسقط كورقة خريفٍ لا تعرف الصبر. أيقنت أن الموت مرّ بقربِي لم يُلق التّحية, حل ضيفًا ولا أحدْ يقوَى عَلى ضيافَته!
ضَممت علِي إلى شوارع صدري والتقطت هند بين يدِيه علّه يثبت
- مريم تردد خلفِي: كيف هُو الموت؟ أين سيأخذ أمي ياسالم؟
- الموت سيأخذها للجنة هو كالحب ياصغيرة, يأتي خلسة!
- أنا أحب أمِي هل ستأخُذني إلي الجَنّة؟
صَمتتُ!, وتقاعست هِي راحلة, تُتمتم بكلماتٍ لم تجوُب مسمَعِي, اندهشتْ من حديثي, لا تعرفُ سوى دميتها، كيف تصيغ الحُب مفردةً على لسانها؟ «كم كنت مغفلًا»
ثقَبت قلبِي الفاجعة هذا المسَاء, شَرعتْ أبَواب الشِتاء! خلفَ نوافذ القرية وجوه ترحل للمقابر وتبقى ذكراهم عالقةً كقلادة نورٍ فِيْ عُنقِ مِدفَنة!
أدبرتُ إلى سرير أمِي رسمت في عيني شوشرة وقالت: كان لابد لنا من هجرة يابنِي! فلنهم إلى المدينة, رُبما نلتقِي بأصدقاء آخر.