مررت بعشرات القصص المثيرة وأنا أتجوَّل في بعض كتب التاريخ، وهي قصص مفعمة بالموعظة والعبرة، لأنها ترسم لنا حياة دولٍ سادت ثم بادت، وقبائل عاشت حياتها بين قوةٍ وضعف، وسلم وحرب، وهزيمة ونصر، وفي تلك القصص من الإمتاع القصصي ما يجعل القارئ متابعاً لها، مستأنساً بقراءتها وهذا هو شأن «القصة» دائماً، تثير، وتعجب، وتمتع، وترسخ بعض القيم والمعاني في نفوس المستمعين إليها، والمغرمين بقراءتها، وهنا مكمن الخطورة في الأسلوب القصصي حينما تكون القصة منحرفة الفكرة والهدف، مليئة بما تسوء من المواقف وأنماط السلوك.
نفتح هذه النافذة التاريخية لنرى من خلالها أحداث قصة جَرَتْ في السنة الثانية من الهجرة النبوية بين قريش من جانب، ودوس وبني النمر والغطاريف من جانب آخر.
تقول القصة:
كان أبو أزيهر الدوسي على علاقة متينة بقريش وساداتها، وكان كثير الزيارة لمكة، والمكث عند حليفه فيها «أبي سفيان بن حرب» سيد قريش، وكان قد زوّج ابنته «عاتكة الدَّوسيَّة» من سيدٍ من سادات قريش هو «عُتبة بن ربيعة» الذي قُتِلَ مشركاً في غزوة «بدر الكبرى» فأنجبت له ابنين، ربيعة بن عتبة، وقد قُتِل مع أبيه في بدر، ونعمان بن عتبة، وهما أخوا هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية من أبيها، كما زوج بنته الأخرى «هند» من الوليد بن المغيرة فكان زواجاً مثيراً، وكان سبباً في صناعة الحدث الذي نرويه هنا.
لما دخل الوليد بن المغيرة -وهو سيد من سادات قريش- على عروسه «هند الدوسيّة» سألها قائلاً: هل أنا أشرف أم أبوك -ويا له من سؤال غريبٍ في أول لقاء بين عروسين- قالت له: بل أبي «أبو أزيهر» أشرف منك، فقال لها وقد بدا الغضب على وجهه: ولماذا كان أبوك أشرف؟، قالت: لأنه سيِّدُ السَّراةِ، وأنت سيِّد على من حولك من أهلك، فما كان من العريس المتغطرس إلا أن صفع هنداً صفعة قوية على وجهها، فخرجت هاربةً إلى أبيها الذي كان عند أبي سفيان، فأقسم ألا تعود إليه أبداً، وحاول الوليد أن يسترد المهر الذي قدَّمه ولكنّ أبا أزيهر أبى، وانتهى هذا الزواج العجيب.. ولما حضرت الوليد بن المغيرة الوفاة، دعا إليه أبناءه «خالد بن الوليد، وهشاماً، والوليد بن الوليد، وقال لهم: إني أوصيكم بثلاث:
1- لي دَمٌ عند خزاعة فلا تُطِلُّوه، وخذوا بثأري فيه.
2- لي رِبَاً في ثقيف فلا تدعوه عندهم، 3- «عقري» أي مهري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنَّكم. وأقول: انظروا -أيها الأحبة- كيف تكون الوصية عند الإنسان الكافر الذي لا تهمه إلا نفسه وأمواله؟.. وبئس بوصية تدفع أبناءه إلى العداوة والبغضاء بهذه الصورة.
حينما علم أبناء الوليد بوجود أبي أزيهر عند حليفه أبي سفيان جاؤوا إليه سِراعاً ومعهم سيوفهم، وقالوا: لقد أوصانا أبونا بأخذ المهر الذي دفعه إليك، فقال أبو أزيهر: لا والله لا أعطيكم إيّاه تحت ظِلال السيوف، فعاجله هشام بن الوليد بضربة مفاجئةٍ بسيفه فقتله في دار أبي سفيان، وتركوه مجندلاً في مكانه وذهبوا، وهنا بدأت المشكلة بين قريش ودوس.. فأبو سفيان تعامل مع الموقف بهدوءٍ، ولم يُرِدْ أن تدخل القبيلتان في حربٍ لا تستطيع قريش خوضها وقد أصبحت قلقة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقراره فيها وانتصاره على قريشٍ في بدر، ووصل الخبر إلى المدينة، فقال حسان ساخراً من أبي سفيان:
كساك هشام بن الوليد ثيابه
فأبْلِ وأَخْلِقْ مثلَها جُدُداً بَعْدُ
قضى وَطَراً منه فأصبح ماجداً
وأَصْبحْتَ رِخْوَاً ما تُخِبُّ وما تَعْدُو
فلو أنَّ أشياخاً ببدرٍ شهودُه
لَبَلَّ نحورَ القوم مُعْتِبطٌ وَرْدُ
وتناشد الناس هذه الأبيات في مكة فغضب يزيد بن أبي سفيان، وأخذ سيفه، وقام ليجمع رجال عشيرته ضد أولاد الوليد بن المغيرة، فأمسك به أبوه أبو سفيان قائلاً: إنما أراد حسان أن يضرب بعضنا ببعض، أتريد أن تتفانى قريشٌ في رجل من دوس؟.. ويا لها من كلمةٍ فيها التهدئة والتسكين من جانب، وفيها إثارة حمية قبيلة دوسٍ من جانب آخر، ثم بعث أبو سفيان بمئتي بعير إلى أهل أبي أزيهر ديةً له، أرسل بها «ضرار بن الخطَّاب»، ولكن دوساً قد حميت لما بلغتها كلمة أبي سفيان وجمعت رجالاً من دوس والغطاريف وبني النمر لمحاربة قريش، وتوجه هذا الجيش صوب مكة، وحينما وصل ضرار بن الخطاب بالإبل أخذوها وأرادوا أسره ولكنه استجار بامرأة من دوس فتركوه لها، وانتهت المعركة بهزيمة قريش، وبلغ الخبر المدينة، فقال حسان مؤيد الدوس مطالباً بعدم وقوفهم عن هذا الحدِّ:
يا دوس إنَّ أبا أُزَيْهِرَ أصبحتْ
أصداؤه رَهْنَ المُضَيَّح فاقْدحي
حَرْباً يشيب لها الوليدُ فإنَّما
يأتي الدَّنِيَّةَ كلُّ عَبْدٍ نَحْنَحِ
إنْ تقتلوا مئةً به فَدَنِيَّةٌ
بأَبي أُزَيْهِرَ من رجال الأبطحِ
ثم حدثت معركة أخرى انتصرت فيها دوس نصراً ساحقاً فطلبت قريش الصلح فاصطلحوا أن تدفع قريش لدوسٍ ديناراً عن كل بعيرٍ يمرُّ بديارهم، وظلوا كذلك حتى فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فأبطل هذه الضريبة فيما أبطل من أمور الجاهلية.
في القصة عبر كثيرة أترك لكم تأملُّلها، والوقوف عليها.
إشارة:
مَنْ ذا الذي نال في دنياه غايتَه
من ذا الذي عاش فيها ناعمَ البالِ؟