أتمنى أن يكون أكثر قراء هذه السطور قد شاهدوا الفيلم الهندي: «سيدي الرئيس: اسمي خان ولست إرهابياً». يحكي الفيلم قصة شاب هندي مسلم اسمه خان يعاني من نوع مخفف من ظاهرة التوحد تسمى متلازمة آسبرج. تلاحظون أنني لم أتبنّى مصطلح (مرض التوحد) لأنني لا أوافق عليه، فالتوحد ليس مرضاً وإنما خصوصية عقلية يتميز صاحبها بالانطواء إلى الداخل (العزلة) وتكرار الكلمات والحركات والتنقل السريع من مكان إلى مكان ومن شيء إلى آخر ومن موضوع إلى غيره، مما يجعله يبدو للمعتوهين الحقيقيين المحسوبين على الأسوياء كما لو كان معتوهًا. الواقع أن قدرات المتوحد العقلية تبدو كما لو كانت قد تجمعت وتكثفت في مكان واحد من الدماغ وتخلت عن الانتشار المتخصص في مختلف مراكز الدماغ. لذلك يتمتع التوحدي عادةً بموهبة مذهلة في نوع محدد من القدرات، مثل التعامل مع الأرقام والمعادلات الحسابية المعقدة أو استذكار معزوفة طويلة كاملة بعد سماعها لمرة واحدة أو رسم واجهة مبنى أثري قديم مرصع بالكرانيش والأقواس والكوى والشرفات بعد تأمل المبنى لبضع دقائق.
الشاب المسلم الهندي خان - كما يقدمه الفيلم - لديه صورة مخففة من التوحد تكون فيها درجة الميل إلى الانعزال أقل ليحل محلها تعلق عاصف بشخص أو فكرة أو رغبة القيام بمهمة ما مهما بدت مستحيلة. لذلك يصمم الشاب الهندي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (وما ترتب عليها من اتهام المسلمين الجمعي بالإرهاب) على السفر إلى أمريكا لمقابلة رئيسها فقط ليقول له نيابة عن كل المسلمين أنه ليس إرهابياً، والقصة طويلة ومليئة بالمواقف. كلما تذكرت هذا الفيلم وما تكبده الشاب التوحدي خان لتحقيق مهمته تسللت إلى رأسي إمكانيات المقارنة وأوجه الشبه بين معانات التوحدي ومعاناة حامل الفكر التنويري في المجتمعات التي تسود فيها الأحكام المسبقة وادعاء التميز في كل مناحي الحياة.
قبل عقود قليلة من السنين لا تزيد كثيراً عن ربع قرن كانت ظاهرة التوحد تدرس في كليات ومعاهد الطب على أنها مرض نفسي مرتبط بنقص شديد في القدرات العقلية وفي إمكانيات التأقلم الاجتماعي والتعلم، وكان التعامل مع الشخص التوحدي يتم منذ الطفولة بناءً على ذلك. الآن يقول العلم إن التوحدي شخص كثير الحركة والتكرار والإصرار صعب التأقلم لكنه يتمتع بقدرات مكثفة ومفيدة في مجالات أخرى تجعله متميزاً بها عن الآخرين.
ما أشبه التنويري بالتوحدي عبر تاريخ الاثنين؛ كل تنويري قد يظهر مبكراً في مجتمعه بتعرض للاتهام بنقص العقل ويعامل على أنه مصدر خطر على الحياة الاجتماعية. الفرق الوحيد لصالح التوحدي هو أنه لا يتهم في معتقده وأخلاقه، لذلك لا يتعرض للأنواع السائدة من التحريض والاتهامات التي يتعرض لها التنويري في المجتمعات المصابة بأوهام الكمال. عزاء التوحيديين وأسرهم التي احتضنتهم وعانت معهم قد بدأ بإعادة الاعتبار الاجتماعي لقدراتهم الكامنة وشخصياتهم القلقة، وعزاء التنويريين سوف يكون كذلك.