المـدن مثـــل البشر تماماً لها طفولة وشباب وشيخوخة, تمر بلحظات سعيدة ومتوهجة وأخرى حزينة ومدمرة, لها ذاكرة وأقدار وطموحات وجراح, للمدن مزاج وشخصية مثل الإنسان بعضها حزين ومنطو, وبعضها حميم وطموح وشغوف بالحياة ومتفجّر بمعانيها, منها ما هو في مقتبل العمر، ومنها ما يعيش كهولة لا تنضب, ومنها ما توقعك في حبها منذ أول لحظة تطأها قدمك, تسحرك بطقسها والحياة التي تسكن مفاصلها وتشعر أنها تسكنك بدل أن تسكنها.
نحن إلى حد كبير نشبه المدن التي نسكنها, نتطبّع بطباعها ونتشابه مع روحها, لذا يُقال إن سكان المدن الساحلية أكثر انفتاحاً وقدرةً على الاتصال, بينما المدن المغلقة المنطوية على نفسها يعاني سكانها من صعوبة في التواصل مع الآخرين.. هناك مدن طيّبة رغم قسوتها, دافئة رغم صقيعها, طموحة رغم ضحالة إمكانياتها, ممتعة رغم جراحها, جميلة على الرغم من مرور الزمن على قسماتها, هناك مدن نولد فيها وهناك مدن تولد فينا, هناك مدن غبية لا تستفيد من تجاربها, وهناك مدن حزينة لا تتجرأ أن تكون سعيدة, وهناك مدن انقلبت عافيتها على حين غرة ووقعت عليها كل اللعنات في ليلة ظلماء فلا هي التي شفيت ولا هي التي عادت كما هي.. مثل (بغداد والقدس وكابول) وغيرها من المدن غير المستقرة.
«الرياض» مثلاً وعلى الرغم من جفافها وشح الحياة في أوصالها وكل تلك الأتربة التي تخنقنا والسخونة التي تحرقنا والملل الذي يجبرنا على مضغ الأشياء نفسها كل يوم, إلا أنها مثل الأم لا تقوى على فراقها على الرغم من قسوتها وأفكارها اللا منطقية أحياناً إلا أنها تظل الحضن والسلام والملاذ الآمن.
هناك مدن كتب لها أقدار محدّدة, «فبيروت» ست الدنيا, التي تتذكّر بها دور النشر وشوارع الحمراء الشهية الضيّقة, خلفها جراح بحجم جمالها وأكبر, هي التي تستيقظ من تحت الرماد وتنتفض من تحت الركام كطائر الفينيق, هي التي علّمت أبناءها وسكانها أن الحياة قصيرة جداً لنقضيها في مناقشة جراح الماضي.
أما «القاهرة» التي تختنق بداخلها من الزحمة والتلوّث والضجيج والفقر المدقع إلا أن في شرايينها مضاد حيوي لكل آلام الدنيا وأوجاعها.
و»لندن» تلك المدينة ذات الطبيعة الخلاَّبة والمزيج العرقي والحضاري العريق تتسم رغم هدوئها وسلامها بالحزم والصرامة, بينما تحيا جارتها عاصمة النور لتدهش زوراها, وتشعرك وكأنهم في داخل لوحة فارهة الجمال وفي سطور حكاية رومانسية حالمة, هي «باريس» الاسم العذب اللذيذ والتي لا تستغرب بعد عبورها كيف لاسمها كل هذا الرنين المضي.
في «نيويورك» تتعرَّف على نفسك من جديد, تسابق الزمن من أجل أحلام لا يراها أحد سواك, في بوابة أمريكا لا مكان للكسل والفوضوية, قال أحد عشاق هذه المدينة المتطورة عندما تغادر نيويورك فأنت تذهب إلى «لا مكان»، أما أحد الكتَّاب الساخرين فقال عنها: (عندما تكون الساعة الثالثة في نيويورك سيكون العام 1938 في لندن).
أما «لوس أنجلوس» فاسمحوا لي أن أشبهها بامرأة في الأربعينات ووجهها مليء بإبر البوتوكس التي تعيد الرونق والشباب لوجهها ويبدو أن طبيب تجميلها شاطر جداً!
وفي العودة إلى آسيا وتحديداً في غرب المملكة العربية السعودية، حيث أطهر بقاع وأشرفها, «مكة» التي لا تشبه سوى نفسها، هي ليست مدينة، بل تميمة معلَّقة على صدر الأرض إلى حين يتشقّق الزمان, هي كحوض استحمام ضخم تغتسل فيه من كل خطاياك وآلامك.
أما «دمشق» فهي العراقة على هيئة مدينة, هي التاريخ والشمس والياسمين هي التي تشعر وأنت بين يديها أنك ترغب بأن تلمس البيوت والأسواق بيديك لتستشعر حجم العراقة في عروقها.
أما معجزة الرمال «دبي» المدينة الطموحة التي تهوى التحدي وتعشق التميّز فلم ترض بأن تكون رقماً بين مدن الصحراء المنسية, حيث قرَّرت وبعزم وإرادة وحكمة أن تكون واحة خلاَّبة ومركز إشعاع حضاري وكان لها ما تمنت.
في النهاية أقول مع الأسف إن كثيراً منَّا يسافر بالتبعية والتقليد ويسافر إلى مدن لا يختارها، بل يختارها له الآخرون ينسى أن لكل منَّا حاسة مختلفة في تذوّق المدن.. سافروا ففي المدن متعة وحكاية وشفاء.