نِعَم الله ذي الجلال والإكرام على خلقه أجمعين نِعَم كثيرة لا تُحصى ولا تُعَد. ومن نِعَمه الكبيرة على الأمّة المسلمة بالذات أن هدى أفرادها إلى الإيمان به رباً لا شريك له، وبنبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وبالإسلام ديناً.
وفي ظلال هذا الإيمان الوارفة أكرم هؤلاء الأفراد بمواسم خير ذات قطوف دانية ينالها المؤمنون المخلصون بيسر ومتعة. ومن هذه المواسم الخيرية شهر رمضان الفضيل، الذي أنزل فيه القرآن الكريم هدى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان.
وشهر رمضان الفضيل أخبر من لا ينطق عن الهوى، نبيّنا محمد، صلى الله عليه وسلم، أنّ الله - سبحانه وتعالى - خَصَّه من بين أعمال ابن آدم الصالحة بأن جعل صومه له - جَلَّ شأنه وتقدَّست أسماؤه - فهو يجزي به. وجعل ثلثه الأول رحمة، وثلثه الأوسط مغفرة، وثلثه الأخير عتقاً من النار.
وها هي ذي أمّتنا المسلمة تُوَدِّع شهر الصيام الفضيل بأيامه ولياليه، آملة من ربِّها الكريم المتفضّل بالآلاء والإحسان أن يكون قد مَنَّ عليها بالرحمة والمغفرة والعتق من النار. وفضل شهر رمضان؛ ليالي وأياماً، فضل عظيم. ولليالي العشر الأواخر منه أجزل الفضل وأعظمه.
ولذلك كان النبي، صلى الله عليه وسلم، أعظم ما يكون اجتهاداً في التقرُّب إلى خالقه ومولاه - جَلّ وعلا - بأنواع العبادة فيها. ومن فضائل الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم كون ليلة القدر المباركة من بينها على أرجح أقوال العلماء. ولهذه الليلة المباركة من الفضل والشرف ما أوضحه الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز من أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن: هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانَِ ، وأنها خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، وأنها سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ .
وإلى جانب تلك الفضائل لشهر رمضان الكريم، فإنه الشهر الذي شهد انتصارات عظيمة لأمّتنا المسلمة على أعدائها في معارك لها ما كان لها من عظمة في مسيرة تاريخ هذه الأمّة. وكنت قد تحدثت - بإيجاز شديد - في مقالة الأسبوع الماضي عن معركة بدر .. يوم الفرقان .. التي حدثت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية، وعن فتح مكة، الذي حدث في الثاني والعشرين من هذا الشهر من السنة، للهجرة. وفي هذا الشهر الكريم حدث فتح بلاد الأندلس في عهد الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، الذي اتّسعت الفتوحات في عهده اتّساعاً عظيماً؛ شرقاً وغرباً، وتحقَّقت نهضة حضارية عربية إسلامية موفَّقة. وكنت قد أشرت إلى ذلك الاتّساع في الفتوحات بأبيات من قصيدة - وذلك بعد الإشارة إلى الفتوحات التي تمَّت في عهد الخلفاء الراشدين - قائلاً:
وما فترت للمؤمنين عزائم
ولا وقفت للفاتحين مواكب
تَخطَّت حدود الصين منهم طلائع
وفي جنبات «الغال» جالت كتائب
وأصبحت أنّى سرت شرقاً ومغرباً
تَراءى لعيني إخوة وأقاربُ
وبلاد «الغال» تقع في فرنسا كما هو معروف.
وفي شهر رمضان الكريم أيضاً حدثت معركة عين جالوت بين المسلمين والتتار، وذلك في الخامس والعشرين من هذا الشهر عام 658هـ، وكانت تلك المعركة، التي قاد المسلمين فيها الظاهر بيبرس، معركة حاسمة ونصراً عظيماً للمسلمين أوقفت شرور التتار وفظائعهم الهمجية.
وفي الثاني والعشرين من هذا الشهر الكريم، الذي يودِّعه المسلمون آملين أن يقبل الله من الجميع أعمالهم الصالحة، تمكّن الليبيون الثائرون الأبطال من اقتحام مقر الدكتاتور الظالم، معمر القذافي، الذي ظلّ جاثماً على صدور الشعب الليبي اثنين وأربعين عاماً، وأصابت منه أمَّته العربية المسلمة، كما أصاب منه ذلك الشعب الكريم، كوارث عديدة. والمرجو من الله المنعم على خلقه الناصر لمن نصره، المنتقم من الظلمة ومن عاداه، أن يكون النجاح في اقتحام مقر ذلك الدكتاتور الظالم - وتاريخ هذا الاقتحام هو تاريخ فتح مكة في عهد النبوّة - سبيلاً للقضاء على كل أركان حكمه الكريه، وطريقاً لتحقيق الشعب الليبي كل ما يؤمله من استقرار وفلاح وتقدم.
وكاتب هذه السطور؛ وهو يودِّع شهر رمضان الكريم، كما تودِّعه أمّته العربية المسلمة، يرفع يديه إلى السماء مُتَضَرِّعاً إلى الله مجيب دعوة الداعي إذا دعاه أن يهيئ لأمّته من أمرها رشداً، ويوفّقها، قادة وشعوباً، لتستبين طريق الهدى، وتعمل على التخلُّص من أسقامها وآلامها الحالّة بها، وتدرك ما يخطط لها أعداؤها من داخلها ومن خارجها من أمور لا يعلم مدى هولها وفداحتها إلاّ الله وحده.