احتار الفلاسفة في تعريف الإنسان، فالتعريف الإفلاطوني الذي يقول بأن الإنسان حيوان عاقل يستثني كثيراً من الحيوانات الذكية مثل الثعالب والغربان وغيرها، وهو تعريف يعتمد إلى حد كبير على مفهومنا للعقل فالإنسان يتصرف في أحيان كثيرة بشكل مدمر بعيداً عن العقل، ولا يمكنك إلا أن تطلق على المختل عقليا وصف إنسان، لذا

ارتأى بعض الفلاسفة أن تعريف الإنسان بأنه الحيوان «الذي يسير على قدمين وليس له ريش» قد يكون أدق من سابقه. وكاتب المقال يقترح تعريفاً للإنسان «بالحيوان الطاهي»، فطهي الطعام» ميزة إنسانية خالصة بكل اقتدار، ولا يشارك الإنسان فيها أي حيوان آخر بما في ذلك الثعلب أو قرد الشيمبانزي، ولأن الإنسان مهما كان مجنونا يحرص على طبخ طعامه ولو بشكل سيئ.

الإنسان تفنن في تدليع نفسه بالطهي، واخترع لذلك الآلات من سكاكين، وطواحين، ومواقد، وأفران، وشوايات وغيرها، وكذلك اخترع للطهي أماكن تسمى المطابخ، وأماكن للأكل تسمى المطاعم. وكل ذلك وللأسف في غير صالح الحيوانات الأخرى وعلى وجه الخصوص تلك الحيوانات التي يفضلها الإنسان مطهية على مائدته مثل البقر، والخرفان، والدجاج، والأسماك التي يعد أكلها ظاهرة إنسانية كونية. بل إن الإنسان الذي يكاد يفرغ البحر من السمك، والسماء من الطيور، أخذ يتفنن في مكاثرة الحيوانات الأخرى بشكل شبه صناعي لمجرد أكلها. فالدجاجة المسكينة التي أنشأ لها الإنسان مزارع نموذجية، بعضها أنظف وأكثر صحة من بعض المستشفيات، لا تعلم أنه فعل ذلك ليسرق بيضها ليأكله دون علمها، أو أنها ذاتها لا تلبث أن تجد نفسها في خط طويل هدفه ذبحها ونتف ريشها تمهيدا لوصولها لمائدته.

الإنسان، هذا الحيوان الذي يدمر بيئته من غير عقل، نتيجة لازدراده بدون حساب معظم الحيوانات الأخرى من حوله، أخذ في التكاثر بشكل يهدد بإبادة كل شيء حوله نباتاً أو حيواناً. فهو ليس كالحيوانات الأخرى يأكل ليشبع، أو يأكل ليعيش، هو يأكل ويهضم ليأكل مرة أخرى، أي يعيش ليأكل، واخترع لإشباع نهمه حبوبا للهضم، والحموضة، والغازات، والكليسترول لتخلصه من كل الإنذارات الطبيعية له بالتوقف عن الأكل. كما أنه أبدع الضوء ليتمكن من الأكل ليلا، أي أنه خالف الطبيعة في مواعيد الأكل وأخذ من نومه لبطنه، وهو لا يبيت لا بياتاً شتوياً ولا صيفياً مثل بعض الحيوانات الأخرى كالدب والأفعى، بل يأكل طوال العام. ولو قدر للحيوانات الأخرى أن تقيم دعوى على الإنسان لوجد مذنباً بكافة المقاييس في التعدي ليس فقط على الحيوانات، بل أيضا على طعامها الطبيعي، فهو يأكل كل ما تقتات عليه الحيوانات الأخرى بشكل سبب لها الانقراض. وربما أن سبب انقراض الديناصور من على وجه الأرض هو أن الإنسان بدأ يزاحمه في أكل البقر، والجواميس، والخيول، والخنازير، والسحالي التي كان يقتات عليها، حتى قتله جوعا.

فالإنسان حيوان نهوم، يأكل أكثر مما يحتاج، ويفضل أكثر مما يأكل، ولذا فهو يدّعي أنه يأكل بعينه وأنفه وليس بفمه فقط. فإنسان الجزيرة العربية على سبيل المثال، الذي لا تزال الخراف، والدجاج «الصناعي» ضمن قدرته الشرائية جعل من أرتال المفاطيح وأكوام الدجاج المكبوس ركناً أساسياً ليس فقط في فرحه بل وفي حزنه أيضا، فالأعراس والمآتم يموت في سبيلها الكثير من مخلوقات الله المستضعفة. ورغم وجود لحوم الماشية معلقة في زجاج الجزارين الناصعة، والدجاج في أكياس نايلون جديدة في البقالات، إلا أن إنسان الجزيرة العربية يصر على تجشم كل المخاطر ليأكل زواحف تعيش على أكل بعضها كالضب والجرابيع، أو طيور تأكل ما يأنف منه من حشرات وخنافس ويسمي ذلك رياضة، وهو يصادق الصقر، ويعتني به ويوظفه في القصف الجوي للطيور الطائرة غير المسلحة، ليضحك عليه فيما بعد ويسرق طريدته بعد صيدها، ويغلق عينيه بقناع يقلل من حسرته.

أمره عجيب هذا الإنسان، فجهازه العصبي تطور بشكل لم يعد ممكنا معه ضبط فمه، فترهل جسده بشكل سبب له ثقلاً وبطئاً في الحركة يسيل معه لعاب الحيوانات المفترسة في الغابة لو وجدت له سبيلا. وسيطرت شهوة الأكل عليه مما عطَّل كل نشاطاته بل وبعض الشهوات الأخرى لديه، فكان لا بد أن يستأصل جزءاً من معدته، أو يربطها، أو يحور الأكل كليًا عنها. غريب هذا الحيوان الذي منحه الله العقل ليسيطر على أعضائه الأخرى، فلا يسيطر عقله على فمه، بل يتحكم فمه في عقله، ولا يتخلص من ذلك إلا بربط معدته.

الإنسان يأكل كل شيء في البيئة، حتى الإنسان الآخر في بعض الثقافات والأحايين يعد وجبة شهية لأخيه الإنسان، حسب الحاجة. في الصين، والهند وما جاورها، حيث البشر أكثر من الطيور، والزواحف، والنباتات، وكل شيء تقريبا، ولكل حيوان أو جماد طريقة طهي خاصة به. وفي بلد الملاوي يعد كيك كالنمل، وشربة صراصير النخل، ومشوي بعض شرانق الديدان من الأطعمة الراقية، وجزء يفتخر به من الخصوصية الثقافية للبلاد، وتحتل الباب الأول من كتب الطبخ المالاوية. وهناك نوع من الشرانق الكبيرة كقطع الهبر البيضاء تستخرج من جذوع الأشجار تشكل طعاماً شهياً للسكان الأصليين في إفريقيا، وأستراليا وتاهيتي. وهي نظيفة جدا ويذكر كل من كانت لديه الشجاعة الحضارية من الباحثين وجربها أنها كانت لذيذة جدا. ومن حسن حظ هذه الشعوب الفقيرة البائسة، أن شعوب الثقافات «المتسلطة» لم تستطعم هذه الوجبة الشهية وإلا لكان مصيرها مصير الانقراض أو شبه الانقراض كما يحصل حاليا مع الحيتان، والتونة، وبعض الطيور، أو الاحتكار والبيع بأعلى الأسعار.

الإنسان بنهمه أدخل نفسه مرحلة الخطر، مرحلة قد تهدد بعض فصائله بالانقراض إما نتيجة الجوع أو نتيجة الحروب لتجنب الجوع. ولا غرو أن بعض فلاسفة العنف كان يرى للحروب فوائد في السيطرة على النمو السكاني تعادل فوائد حبوب تحديد النسل حيث يمكن القول إن الإنسان يحاول تحديد النسل ليأكل أكثر ليس إلا. أما الثقافات التي يمكن تسميتها بالثقافات الرحيمة لأنها لا تقبل قتل الإنسان بصورة الحروب البشعة، بل تقبل ذلك بطرق أكثر رحمة، فقد بدأت تفكر في كيفية توفير الطعام له مستقبلا بدون حروب، بتوفير مصادر طعام جديدة له كالديدان، والحشرات وغيرها، ليس حبا له بل استثماراً لجيبه. أي أن الإنسان سيصبح Homo Mosquitos ينافس الطيور، والثعابين، والزواحف على مصادر طعامها من الديدان والحشرات.

بلدان تستشرف مستقبل البشرية بدأت فعليا في إنتاج أطعمة بديلة لسد فجوة الغذاء المتوقعة نتيجة لتضاؤل بيئة الإنسان المنتجة للغذاء وازدياد عدده ونهمه. فلم تجد هذه الدول أفضل من تبني النموذج الإفريقي في أكل الديدان والحشرات وعلى وجه الخصوص الديدان الصفراء والجراد. وقد بدأ الإنتاج التجاري بالفعل لهذه الأطعمة، فقد فتحت في هولندا وألمانيا مطاعم خاصة لهذه الأطعمة يرتادها من يأكلون بعقولهم لا بأنماطهم الثقافية المتوارثة. وحسب كلام أحد أصحاب هذه المصانع فإن كيلو واحداً من الغذاء ينتج ثلاثة كيلو من البروتين الدودي، بينما يتطلب إنتاج كيلو بروتين بقري ثلاثين كيلو غذاء للثور. وهذه الديدان تخضع لأنماط إنتاج نظيفة تقارن بالنظافة في مصانع الحليب والأجبان. بقي فقط أن يتقبل الناس شكلها وطعمها لذلك ارتأى البعض طحنها وتقديمها على شكل قطع مفرومة مقلية لا شكل دود متلو.

وبهذا الخصوص يرى بعض علماء الأنثروبلوجي أن تقبل الأطعمة مسألة متعلقة بثقافة وذائقة الشعوب، وعلى وجه أدق، ذو علاقة بخصوصيتها الثقافية، وليست لها علاقة بطيب هذا الطعام أو مذاقه، أو فائدته. فقد وضعت بعض الدراسات طعاماً في أواني فاخرة جداً مكتوباً عليها «كلب»، وبالرغم من أنها كانت جديدة وغالية الثمن فقد رفض الجميع تناول الشوربة فيها مما يؤكد أن مسألة تقبل الطعام حالة عقلية نفسية لا علاقة لها بالطبيعة البشرية. فهل يا ترى نرى يوما ما مزارع للجراد لدينا تسد بعض الحاجة للبروتين الحيواني الذي وصل سعر بعضه لما يقارب السبعين ريالاً. فقد أكل سكان الجزيرة الجراد قبلا وما زال البعض يستطيب طعمه، خصوصا «المكن». أما الخيار الآخر فهو الاستعداد لريجيم قسري قادم.