يوما ما كانوا يقلبون أنظمة، ليكسبوا شعوبا، أما اليوم فقد صاروا ينقلبون على شعوبهم ليكسبوا أنظمة!
ويوما ما، كانت الأنظمة هي «العميلة» في ثقافتهم، بينما الشعوب هي المقاومة والصمود والتصدي، أما اليوم فقد صارت الشعوب هي العميلة بينما الأنظمة هي «المقاومة والصمود والتصدي».
ويوما ما كانوا يواجهون «المؤامرة» الخارجية مع شعوبهم، أما اليوم فقد صاروا يتهمون شعوبهم بالانخراط في «المؤامرة».
ويوما ما كانوا يذهبون الى السجون من أجل حرية شعبهم، أما اليوم، فقد صاروا يرسلون أبناء شعبهم الى السجون من أجل أن تنتصر سلطة الطغيان.
هذا جانب من المفارقات التي يقدمها «قوميو» الاستبداد هذه الأيام. هم يعرفون أن الأنظمة التي يدافعون عنها ليست سوى أنظمة شعارات فارغة، ولكنهم يتغافلون، وعندما تقول لهم: لماذا بعد عدة عقود من السلطة لم تتحقق هذه الشعارات؟ يقولون لك: انها «مؤامرات الإمبريالية». وعندما تقول لهم: لماذا فشلتم في مواجهة «مؤامرات الإمبريالية»؟ فإنهم قد يخترعون أي جواب من أجل إلقاء اللوم على الآخرين.
وهم يعرفون أن أنظمتهم تحولت الى أنظمة فساد. إلا أنهم يتجاهلون الفساد، ويتجاهلون عواقبه الاجتماعية، كما يتجاهلون الحطام والأذى الذي يتركه في نفوس المحرومين.
وهم يعرفون أن أنظمتهم ترتكب جرائم وانتهاكات، وسجونها مليئة بالضحايا، حتى لكأنهم شهود زور على الآلام التي يتكبدها الأبرياء، ولكنهم لا يأبهون، ويشاركون أنظمتهم بما ترتكب.
وهم يعرفون أن اشتراكيتهم ترهات، ولم تورث شعبهم إلا الفقر والبطالة، ولكنهم قليلا ما يلاحظون المفارقة المفزعة بين الأيديولوجيا وواقع الحال.
وهم يعرفون أن أحزابهم الحاكمة لم تعد أحزابا، وإنما منظمات شبيحة ومخابرات تكتم على أنفاس الناس، ولكنهم قانعون، لأنهم يرون أن حرية الناس تكشف فراغ دعاويهم، وتفضح نفاقهم.
ولقد فعلوا ما فعلوا بالأمة العربية، ولكنهم يريدون البقاء في السلطة الى أبد الآبدين، لأنهم (على حد الزعم) يستعدون لمعركة تحرير خرافية لم يقدموا لها إلا استعباد شعوبهم وسحقها.
ولم يسألوا أنفسهم أبدا السؤال المر: هل يمكن لشعب هو نفسه مُستعبد أن يحرر شعبا آخر؟ هل يمكن للطغيان أن يخوض معركة تحرير؟ هل يمكن للمسحوقين تحت أحذية الأمن والمخابرات، أن يكونوا مقاتلين من أجل أي قضية؟ بل هل يمكن للفشل أن يصنع نجاحا دون ثورة عليه؟
مع ذلك، وبعد عدة عقود من العنتريات التحررية التي انتهينا منها «على الحديدة»، فإن آخر شيء يسمحون لك به، هو أن تتظاهر مطالبا بالحرية، لأنك ستكون ساعتها، لا شيء أقل من «عميل للأمبريالية». هؤلاء هم قوميو الاستبداد؛ قوميو الفشل الذي إذا واجهتهم به اعتبروك خائنا، وإذا طالبت بالحرية اعتقلوك. وإذا فتحت فمك عذبوك. واذا تملكت رأيا غير رأيهم شتموك، حتى انتهى الأمر بهم أن أضحوا شرطة قمع ومنظمات تعذيب تحت جناح المزاعم الثورية.
ما لا يروه هو أن شعبهم، بفضل طغيانهم نفسه، كسر الطوق، وكسر معه مؤامرة الثورية الكاذبة التي لم تجلب إلا الإهانة والذل.
هل يتبع شعبهم أحدا في الخارج؟
لا حاجة أبدا. فالحرية، كما هو حالها دائما، قضية خاصة جدا، ومقاييسها داخلية جدا، ومصالحها متفاوتة جدا. ولهذا السبب بالذات، لا يأتي الخارج لدعمها إلا متأخرا جدا. وهو يتبع الأحرار قبل أن يتبعوه.
كاتب وناشر ورئيس تحرير «المتوسط اونلاين»