مفهوم الوطن والمواطنة من المفاهيم الجديدة القادمة إلينا من ثقافة الغرب. قبل أن نستورد فكرة الدولة المركزية- الوطن ذات السيادة والحدود والمواطنة، كان الانتماء إلى القبيلة أو البلدة أو المنطقة أو الطائفة هو الحضن الاجتماعي الذي يتميّز به الإنسان، وينتمي إليه، ويذود عنه، وأحياناً (يتعصّب) له؛ وكان الحاكم السياسي يحكم في ظل هذه الانتماءات، ويوفّق بينها. وكنت قبل أيام أتناقش مع بعض الأصدقاء حول مفهومنا نحن السعوديين (للمواطنة) ومتطلباتها، وأسس ترسيخها، ليكون (الوطن) هو الكيان الذي ينتمي إليه أبناؤه، وتحت سقفه يجب أن تختفي أية انتماءات أخرى تتناقض معه أياً كان نوعها؛ حيث لا سقف أعلى منه إلا الانتماء إلى الإنسانية.
وجدت - أو بلغة أدق هكذا فهمت - أن مفهوم الوطن، وبالتالي مفهوم المواطنة، ما زال يعتريه في أذهان الكثيرين شيء من الضبابية؛ حيث إن الانتماءات الموروثة، والتعصّب لها، ما زالت تتقدّم و(بقوة) على الانتماء للوطن. ويجب أن نعترف بهذه الحقيقة، فهي ظاهرة وجلية مهما حاولنا أن نتفادى الحديث عنها، أو نتلمس المبررات لها؛ ومن أجل أن نعالجها يجب - أولاً - أن نعترف بها، ونقر بأنها (مرض) يجب أن نسعى إلى علاجه والتخلص منه.
والوطن والوطنية كمفهومين يستدعيان في السياق (الأخوة في الوطن)؛ ومثل هذه المفاهيم يتحرّج من قبولها بعض المتشددين؛ حيث إن الرابطة الوحيدة لديهم هي رابطة الأخوة الإسلامية، وأي أخوة غير هذه الأخوة، ينبذونها، ويعتبرونها من المحدثات والبدع التي لا تتفق، أو أنها لا تتناسب، مع الأخوة في الدين. وقد عالج الدكتور يوسف القرضاوي هذه الجزئية، أو دعني أسميها (التعارض)، في كتابه (الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية)؛ وخرج إلى أن الأخوة الوطنية لا تتعارض مع الأخوة الدينية إذا كانت متزنة وغير متطرفة؛ يقول: (وقد يعترض بعض الإسلاميين من الحَرفْيين والمتشددين على إطلاق الأخوة خارج الإطار الديني. فليس عندهم أخوة إلا أخوة الإيمان)؛ ثم يناقش الفكرة فيقول: (ومع اعترافنا بذلك نؤكد أن هذه الأخوة على عمقها لا تمنع من وجود أنواع أُخَر من الأخوّات مثل الأخوة الوطنية أو القومية ومثل الأخوة الإنسانية. وقد ناقشني أحد المتشددين يوماً معترضاً على قولي «إخواننا الأقباط». قلت له: إن الأقباط إخواننا في الوطن، وإن لم يكونوا إخواننا في الدين يجمعنا وإياهم وطن واحد. قال: وهل هناك أخوة غير أخوة الدين؟ قلت: نعم، هناك الأخوة الوطنية والأخوة القومية والأخوة المهنية والأخوة الإنسانية.. إلخ. قال: وما الدليل الشرعي على ذلك؟ …. قلت: اقرأ معي قول الله تعالى في سورة الشعراء كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (الشعراء 105 - 106) ويستنبط من الآية حكماً فيقول: (فهذا يدلنا على أن الأخوة ليست دائماً دينية، بل قد تكون وطنية أو قومية أو غيرها).. (راجع الكتاب المذكور، الناشر دار الشروق. ص 42 وما بعدها). وهذا تخريج مقنع ومؤصّل لا يمكن لأحد أن يعترض عليه؛ فضلاً عن أنه يواكب مفاهيم الوطنية، وكذلك المفاهيم الإنسانية التي هي من المفاهيم السائدة في عالم اليوم. وهذا يتسق مع ما جاء في الوثيقة الشهيرة التي صدرت عن الأزهر مؤخراً والمعروفة باسم (وثيقة الأزهر) وجاء في البند «ثالثاً» منها: (الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار «المواطنة» مناط المسؤولية في المجتمع).
ولا يمكن تصور (وطن ومواطنة) دون أن يترتب على ذلك كنتيجة حتمية (حقوق وواجبات)؛ ومثل هذه الحقوق والواجبات إذا لم تكن متساوية بين أبناء الوطن الواحد، دون تمييز، بغض النظر عن انتماءات الأفراد الطائفية أو القبلية أو المناطقية، فإن ذلك يعني أن ثمة (خللاً) لا يمكن قبوله في مفهوم الوطنية كقيمة انتمائية يجب أن تسمو على ما دونها من انتماءات. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس من القضية برمتها.
إلى اللقاء.